المقال الذي نشرتاه منى شيخ ومندا هولوم في المعهد الدانماركي للدراسات الدولية يناقش مفهوم "النظام العالمي" من خلال ثلاث مقاربات رئيسية: الواقعية الجديدة التي ترى الدولة وتوازن القوى كمرتكز، المقاربة القيمية التي تركّز على القيادة الأيديولوجية والليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية، والمقاربة النقدية التي تعتبر "النظام الليبرالي" مجرد سردية تمثيلية وليست حقيقة موضوعية. ويبيّن أن ما يُوصف بـ"أزمة النظام العالمي" هو في الواقع أزمة متعددة الأبعاد تختلف باختلاف المنظور: فبينما يرى الغرب نفسه في حالة انحدار، يعتبر الجنوب العالمي هذه التحولات فرصة للتمكين والعدالة. كما يوضح أن التحديات الجديدة—من صعود "بريكس+"، والشركات التكنولوجية الكبرى، والأزمات البيئية، إلى تصاعد اليمين المتطرف في الغرب—تعيد تشكيل فهمنا للنظام الدولي، وتضعف تماسك الغرب الأيديولوجي والأخلاقي، وتفتح المجال أمام تعددية أوسع ورؤى بديلة للحوكمة العالمية.
What does it mean that the present world order is threatened?
هناك طرق عديدة للتعامل مع فكرة النظام العالمي. فعندما يُتحدث عنها بصيغة المفرد الجوهرية، غالبًا ما تكون الافتراضات والمقدمات غامضة: نظام مَن؟ وأي نظام؟ هناك على الأقل ثلاث مقاربات مختلفة للنقاش حول النظام العالمي في العلاقات الدولية السائدة، وتختلف تشخيصات ما إذا كان التغيير الجاري جوهريًا أو لا، بدرجة كبيرة بين هذه المقاربات.
أولًا: المقاربة الوضعية أو الواقعية الجديدة (Neorealist)، وهي الطريقة الكلاسيكية للتفكير في توازن القوى بالعلاقات الدولية. الكيان التحليلي الأساسي هنا هو الدولة، وتوزيع القوة بين الدول هو موضوع الاهتمام الرئيسي. وتُفهم القوة أساسًا باعتبارها اقتصادية أو عسكرية (وأحيانًا تكنولوجية). من هذا المنظور، تبقى الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية في العالم، وقد تنافسها الصين اقتصاديًا، لكنها لا تزال عاجزة عن إزاحة هيمنتها. ومن ثمّ، فهناك من يرى أننا ما زلنا نعيش في عالم أحادي القطب.
ثانيًا: المقاربة القيمية (Value-oriented)، التي تركز أكثر على القيادة الأيديولوجية والأخلاقية، أو على نوع من التوافق القيمي بين مجموعة من الدول. فمن هذا المنظور، أفرزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية نظامًا قائمًا على تقييد القوة وفقًا لرؤية ليبرالية للعلاقات بين الدول والأفراد. النظام العالمي القائم على القواعد انبثق من الطموح إلى الحد من الأيديولوجيات القمعية عبر أيديولوجية مهيمنة: الليبرالية. من هنا، يُنظر إلى عودة ترامب كعودة إلى "القوة الخام" والمنافسة الأيديولوجية، أي التخلي عن فكرة التوافق العالمي على القيم الليبرالية. وهذا يفتح المجال لتعددية أيديولوجية أكبر في العلاقات الدولية، تُقرأ إيجابيًا في الجنوب العالمي الذي يرى في تراجع الهيمنة الغربية فرصة للتمكين وبناء نظام أكثر تنوعًا وعدالة.
ثالثًا: المقاربة الإبستمولوجية أو النقدية (Epistemological/Critical)، وهي على عكس المقاربتين السابقتين، لا تهتم بقياس "الوضع الحقيقي للنظام" بل بتحليل الأفكار المعيارية والسرديات الكبرى التي تشكل مفهوم النظام. وفقًا لهذا المنظور، فإن "النظام الليبرالي العالمي" ليس وصفًا موضوعيًا للعالم، بل رؤية من موقع محدد. لذلك، من الأدق الحديث عن "أنظمة" متعددة، لا نظام واحد. وكل نقاش حول النظام العالمي هو جزء من ميدان معياري مشروط بتفسيرات للتاريخ ورؤى للحكم والقيم. ومن ثمّ، فإن "أزمة النظام العالمي" ليست أزمة كونية، بل تختلف تبعًا للمنظور؛ فقد يُنظر إلى حقبة ما بعد الحرب الباردة مثلًا كمرحلة استقرار، أو مجرد اضطراب مؤقت.
بصورة عامة، تُظهر هذه المقاربات الثلاث أن فهم التغيرات الراهنة في العالم يختلف جذريًا بحسب زاوية النظر: من دور عودة ترامب، وصعود الصين، وتدخل روسيا في أوكرانيا، وتراجع الغرب، إلى تصاعد مركزية الجنوب العالمي في وضع الأجندة الدولية، كما في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.
أولًا: المقاربة الوضعية أو الواقعية الجديدة (Neorealist)، وهي الطريقة الكلاسيكية للتفكير في توازن القوى بالعلاقات الدولية. الكيان التحليلي الأساسي هنا هو الدولة، وتوزيع القوة بين الدول هو موضوع الاهتمام الرئيسي. وتُفهم القوة أساسًا باعتبارها اقتصادية أو عسكرية (وأحيانًا تكنولوجية). من هذا المنظور، تبقى الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية في العالم، وقد تنافسها الصين اقتصاديًا، لكنها لا تزال عاجزة عن إزاحة هيمنتها. ومن ثمّ، فهناك من يرى أننا ما زلنا نعيش في عالم أحادي القطب.
ثانيًا: المقاربة القيمية (Value-oriented)، التي تركز أكثر على القيادة الأيديولوجية والأخلاقية، أو على نوع من التوافق القيمي بين مجموعة من الدول. فمن هذا المنظور، أفرزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية نظامًا قائمًا على تقييد القوة وفقًا لرؤية ليبرالية للعلاقات بين الدول والأفراد. النظام العالمي القائم على القواعد انبثق من الطموح إلى الحد من الأيديولوجيات القمعية عبر أيديولوجية مهيمنة: الليبرالية. من هنا، يُنظر إلى عودة ترامب كعودة إلى "القوة الخام" والمنافسة الأيديولوجية، أي التخلي عن فكرة التوافق العالمي على القيم الليبرالية. وهذا يفتح المجال لتعددية أيديولوجية أكبر في العلاقات الدولية، تُقرأ إيجابيًا في الجنوب العالمي الذي يرى في تراجع الهيمنة الغربية فرصة للتمكين وبناء نظام أكثر تنوعًا وعدالة.
ثالثًا: المقاربة الإبستمولوجية أو النقدية (Epistemological/Critical)، وهي على عكس المقاربتين السابقتين، لا تهتم بقياس "الوضع الحقيقي للنظام" بل بتحليل الأفكار المعيارية والسرديات الكبرى التي تشكل مفهوم النظام. وفقًا لهذا المنظور، فإن "النظام الليبرالي العالمي" ليس وصفًا موضوعيًا للعالم، بل رؤية من موقع محدد. لذلك، من الأدق الحديث عن "أنظمة" متعددة، لا نظام واحد. وكل نقاش حول النظام العالمي هو جزء من ميدان معياري مشروط بتفسيرات للتاريخ ورؤى للحكم والقيم. ومن ثمّ، فإن "أزمة النظام العالمي" ليست أزمة كونية، بل تختلف تبعًا للمنظور؛ فقد يُنظر إلى حقبة ما بعد الحرب الباردة مثلًا كمرحلة استقرار، أو مجرد اضطراب مؤقت.
بصورة عامة، تُظهر هذه المقاربات الثلاث أن فهم التغيرات الراهنة في العالم يختلف جذريًا بحسب زاوية النظر: من دور عودة ترامب، وصعود الصين، وتدخل روسيا في أوكرانيا، وتراجع الغرب، إلى تصاعد مركزية الجنوب العالمي في وضع الأجندة الدولية، كما في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.
ما الذي تغيّر إذن؟
من الجدير بالذكر أن مصطلحات الأزمة غالبًا ما ترتبط بمخاوف الأمن الإقليمي في أوروبا أو الأمن عبر الأطلسي، وغالبًا ما تختلط أو تُدمج بالنقاشات الأوسع حول النظام العالمي. ومن ثم، هناك فشل في التمييز بين النظام الإقليمي والنظام العالمي. فأزمة العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة ليست بالطبع "أزمة عالمية"، رغم أنها تؤثر على توازن القوى عالميًا وتُحدث تغييرات جذرية في حالة الوضع القائم المستقرة نسبيًا ضمن النظام الإقليمي الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
إن الادعاء بأن الغرب كان ممثلًا ومدافعًا عن الديمقراطية الليبرالية في الداخل، وعن القيم الليبرالية في الخارج، كان دائمًا قائمًا على نقاط عمياء أيديولوجية مستمرة. وبالتالي، يرى غير الغربيين أن هناك قدرًا كبيرًا من الاستمرارية في سلوك دونالد ترامب حاليًا، سواء عبر التهديد بالعمل العسكري أو من خلال موقفه من استمرار الدعم الأميركي (والغربي) للحرب الإسرائيلية غير المقيدة في غزة. فترامب ليس نقيضًا كاملًا لما سبقه. ومع ذلك، وبصرف النظر عن هذا الاستمرارية، فإن استهداف إدارته العلني للديمقراطية والقيم الليبرالية في الداخل، والمؤسسات الدولية المركزية في الخارج، يمثل بلا شك قطيعة كبيرة في السياسات الداخلية والعالمية. فخلال العقدين الماضيين، أصبح اليمين المتطرف جزءًا من التيار الرئيس في الغرب، وإدارة ترامب الثانية تجسيد راديكالي لهذا التطور، بما في ذلك نزع إنسانية الأقليات الضعيفة. كما أن الرسوم الجمركية العالمية الواسعة التي أعلن عنها في 2 أبريل تقلب النظام الذي يحكم التجارة الدولية.
وإذا حاولنا تحديد القضايا التي تتجاوز الأمن الإقليمي الغربي لتلامس التغييرات ذات التداعيات العالمية، فإن أبرزها يتمثل في مكانة الدولة باعتبارها الفاعل الأساسي وصاحبة السلطة في العلاقات الدولية. فالدولة لم تعد الكيان الأوحد المسيطر، إذ باتت تواجه تهديدًا من عمليات وقوى ومصالح عابرة للحدود، مثل التكتلات الإقليمية الكبرى كتحالف "بريكس+" الذي يضم أكثر من 40% من سكان العالم، ومن السرديات الحضارية التي تتجاوز الدولة أو تتحداها، فضلًا عن الشركات الكبرى، ولا سيما شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تؤثر في العالم والمجتمعات بطرق يصعب حتى الآن تفكيكها بالكامل. بعض أثرياء التكنولوجيا الذين اكتسبوا نفوذًا واسعًا في السياسة الأميركية يسعون صراحة لتجاوز نموذج الدولة القومية بحثًا عن ملاذات رأسمالية ما بعد–ديمقراطية.
إلى جانب ذلك، لم تعد القضايا المنهجية الكبرى مثل التغير المناخي مجرد مسألة "أمن ناعم" أو تحدٍ يمكن إدارته، بل أضحت اليوم عاملًا مزعزعًا مباشرًا للأمن الدولي. فالأزمات الكبرى في عصرنا—البيئية والمالية والاجتماعية—تتجاوز الحدود والدول، بل وتتحدى سلطة الدولة نفسها.
أما السردية الغربية الليبرالية التي هيمنت منذ نهاية الحرب الباردة، فهي تمر اليوم بأزمة عميقة. فأزمة القيادة الغربية ليست أزمة كونية، بل ينظر إليها في أجزاء من العالم كفرصة للتمكين والعدالة والمساواة على الصعيد العالمي. إن الافتراض بأن الغرب كان يمتلك التوافق ما بعد 1945، المتمحور حول ميثاق الأمم المتحدة، كان قائمًا منذ البداية على استبعاد الفاعلين غير الغربيين. أما الآن، فقد فقد الغرب تماسكه الأيديولوجي الداخلي وقوته الجيوسياسية والأخلاقية عالميًا، الأمر الذي يفتح الباب أمام نقاشات جديدة حول كيفية بناء نظام عالمي أكثر تعددية وعدالة وتمثيلًا، يشمل إصلاح هيئات اتخاذ القرار في الأمم المتحدة على نحو أكثر ديمقراطية وشمولية.
كذلك، يزداد الغموض بشأن مفهوم الليبرالية نفسها. فالليبرالية لم تكن يومًا تيارًا واحدًا، بل حملت مشاريع متباينة: من ليبرالية تعترف بالتعددية والاختلاف بين الدول، إلى أخرى تسعى لفرض صورة الغرب على العالم، وصولًا إلى المشروع النيوليبرالي الضيق الذي غيّر بشكل جذري أنماط الحوكمة العالمية منذ تسعينيات القرن الماضي. هذه الليبرالية المعادية للتعددية، التي جرى تقديمها على أنها "كونية" ومحايدة تقنيًا، تُرفض اليوم بشكل متزايد ليس فقط خارج الغرب، بل داخله أيضًا، لا سيما من قبل اليمين المتطرف الذي يعرّف نفسه صراحة في مواجهة الديمقراطية الليبرالية على الصعيد الداخلي والليبرالية الدولية على الصعيد العالمي. ومع صعود هذا التيار، أصبح الغرب منقسمًا أيديولوجيًا، وتلاقت مواقف داخل الغرب وخارجه على مقاومة الهيمنة الليبرالية الضيقة.
وفي هذا الإطار، يبدو ترامب أقرب أيديولوجيًا إلى روسيا بوتين منه إلى المجتمع الليبرالي عبر الأطلسي، فكلاهما يرى دولته قوة حضارية كبرى ذات "مجال نفوذ"، وهو ما يقوض الدعوات إلى السيادة التي طالما وُظفت لمعارضة الكونية الليبرالية والتدخلية.
إن التغيرات تتوالى على مستويات مختلفة، وساحات صراع جديدة تتشكل الآن. فترامب لا يغير فقط أسس العلاقة عبر الأطلسي وصورتها الذاتية كجماعة ديمقراطية ليبرالية، بل يهدد أيضًا النظام الرسمي الذي تأسس بعد 1945 والقانون الدولي. إنه يوشك أن يتعامل مع الغرب بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها الولايات المتحدة تاريخيًا مع "البقية" غير المنحازة. ومع ذلك، فإن لا ترامب ولا غيره من التوجهات "اللاعقلانية" يتحدون بشكل منهجي التحول الأعمق منذ التسعينيات، والمتمثل في الهيمنة العالمية للرأسمالية. لكن الرسوم الجمركية التي فرضها مؤخرًا تكشف إلى أي مدى تمثل إدارته قطيعة صريحة مع مؤسسات لطالما شكّلت جزءًا من النظام الذي قادته الولايات المتحدة.
أكاديميًا، يفتح النقاش حول النظام العالمي المجال لطرح أسئلة قديمة حول ما ينبغي التركيز عليه: هل هو نظام الدول، أم السرديات الكبرى، أم الفاعلون السياسيون والاقتصاديون والأيديولوجيون الذين يحتلون مواقع مهيمنة في السياسة العالمية؟ كما يفتح الباب أمام نقاشات ضرورية حول مَن يُمثَّل صوته في تعريف "النظام العالمي"، متحديًا الفرضية الليبرالية الغربية التي قدمت الغرب منذ 1945 كالممثل الحصري للقيم الكونية. ومع وجود ترامب في السلطة، قد نرى عودة "نظريات الرجل العظيم" لتُطبَّق على الغرب نفسه بعد أن كانت حكرًا على تفسير السياسة في إفريقيا، وسنشهد استمرار الانقسام بين المتمسكين بالنظريات التقليدية في العلاقات الدولية حول الفوضى وتوازن القوى، وبين من يشددون على قوة الأفكار والأيديولوجيات والتمثيلات. وربما نشهد أخيرًا اهتمامًا متجددًا بدراسة النظام العالمي والحوكمة من زوايا لا تبدأ بالثنائية المصطنعة بين الغرب "الليبرالي" والـ"بقية".
إن الادعاء بأن الغرب كان ممثلًا ومدافعًا عن الديمقراطية الليبرالية في الداخل، وعن القيم الليبرالية في الخارج، كان دائمًا قائمًا على نقاط عمياء أيديولوجية مستمرة. وبالتالي، يرى غير الغربيين أن هناك قدرًا كبيرًا من الاستمرارية في سلوك دونالد ترامب حاليًا، سواء عبر التهديد بالعمل العسكري أو من خلال موقفه من استمرار الدعم الأميركي (والغربي) للحرب الإسرائيلية غير المقيدة في غزة. فترامب ليس نقيضًا كاملًا لما سبقه. ومع ذلك، وبصرف النظر عن هذا الاستمرارية، فإن استهداف إدارته العلني للديمقراطية والقيم الليبرالية في الداخل، والمؤسسات الدولية المركزية في الخارج، يمثل بلا شك قطيعة كبيرة في السياسات الداخلية والعالمية. فخلال العقدين الماضيين، أصبح اليمين المتطرف جزءًا من التيار الرئيس في الغرب، وإدارة ترامب الثانية تجسيد راديكالي لهذا التطور، بما في ذلك نزع إنسانية الأقليات الضعيفة. كما أن الرسوم الجمركية العالمية الواسعة التي أعلن عنها في 2 أبريل تقلب النظام الذي يحكم التجارة الدولية.
وإذا حاولنا تحديد القضايا التي تتجاوز الأمن الإقليمي الغربي لتلامس التغييرات ذات التداعيات العالمية، فإن أبرزها يتمثل في مكانة الدولة باعتبارها الفاعل الأساسي وصاحبة السلطة في العلاقات الدولية. فالدولة لم تعد الكيان الأوحد المسيطر، إذ باتت تواجه تهديدًا من عمليات وقوى ومصالح عابرة للحدود، مثل التكتلات الإقليمية الكبرى كتحالف "بريكس+" الذي يضم أكثر من 40% من سكان العالم، ومن السرديات الحضارية التي تتجاوز الدولة أو تتحداها، فضلًا عن الشركات الكبرى، ولا سيما شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تؤثر في العالم والمجتمعات بطرق يصعب حتى الآن تفكيكها بالكامل. بعض أثرياء التكنولوجيا الذين اكتسبوا نفوذًا واسعًا في السياسة الأميركية يسعون صراحة لتجاوز نموذج الدولة القومية بحثًا عن ملاذات رأسمالية ما بعد–ديمقراطية.
إلى جانب ذلك، لم تعد القضايا المنهجية الكبرى مثل التغير المناخي مجرد مسألة "أمن ناعم" أو تحدٍ يمكن إدارته، بل أضحت اليوم عاملًا مزعزعًا مباشرًا للأمن الدولي. فالأزمات الكبرى في عصرنا—البيئية والمالية والاجتماعية—تتجاوز الحدود والدول، بل وتتحدى سلطة الدولة نفسها.
أما السردية الغربية الليبرالية التي هيمنت منذ نهاية الحرب الباردة، فهي تمر اليوم بأزمة عميقة. فأزمة القيادة الغربية ليست أزمة كونية، بل ينظر إليها في أجزاء من العالم كفرصة للتمكين والعدالة والمساواة على الصعيد العالمي. إن الافتراض بأن الغرب كان يمتلك التوافق ما بعد 1945، المتمحور حول ميثاق الأمم المتحدة، كان قائمًا منذ البداية على استبعاد الفاعلين غير الغربيين. أما الآن، فقد فقد الغرب تماسكه الأيديولوجي الداخلي وقوته الجيوسياسية والأخلاقية عالميًا، الأمر الذي يفتح الباب أمام نقاشات جديدة حول كيفية بناء نظام عالمي أكثر تعددية وعدالة وتمثيلًا، يشمل إصلاح هيئات اتخاذ القرار في الأمم المتحدة على نحو أكثر ديمقراطية وشمولية.
كذلك، يزداد الغموض بشأن مفهوم الليبرالية نفسها. فالليبرالية لم تكن يومًا تيارًا واحدًا، بل حملت مشاريع متباينة: من ليبرالية تعترف بالتعددية والاختلاف بين الدول، إلى أخرى تسعى لفرض صورة الغرب على العالم، وصولًا إلى المشروع النيوليبرالي الضيق الذي غيّر بشكل جذري أنماط الحوكمة العالمية منذ تسعينيات القرن الماضي. هذه الليبرالية المعادية للتعددية، التي جرى تقديمها على أنها "كونية" ومحايدة تقنيًا، تُرفض اليوم بشكل متزايد ليس فقط خارج الغرب، بل داخله أيضًا، لا سيما من قبل اليمين المتطرف الذي يعرّف نفسه صراحة في مواجهة الديمقراطية الليبرالية على الصعيد الداخلي والليبرالية الدولية على الصعيد العالمي. ومع صعود هذا التيار، أصبح الغرب منقسمًا أيديولوجيًا، وتلاقت مواقف داخل الغرب وخارجه على مقاومة الهيمنة الليبرالية الضيقة.
وفي هذا الإطار، يبدو ترامب أقرب أيديولوجيًا إلى روسيا بوتين منه إلى المجتمع الليبرالي عبر الأطلسي، فكلاهما يرى دولته قوة حضارية كبرى ذات "مجال نفوذ"، وهو ما يقوض الدعوات إلى السيادة التي طالما وُظفت لمعارضة الكونية الليبرالية والتدخلية.
إن التغيرات تتوالى على مستويات مختلفة، وساحات صراع جديدة تتشكل الآن. فترامب لا يغير فقط أسس العلاقة عبر الأطلسي وصورتها الذاتية كجماعة ديمقراطية ليبرالية، بل يهدد أيضًا النظام الرسمي الذي تأسس بعد 1945 والقانون الدولي. إنه يوشك أن يتعامل مع الغرب بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها الولايات المتحدة تاريخيًا مع "البقية" غير المنحازة. ومع ذلك، فإن لا ترامب ولا غيره من التوجهات "اللاعقلانية" يتحدون بشكل منهجي التحول الأعمق منذ التسعينيات، والمتمثل في الهيمنة العالمية للرأسمالية. لكن الرسوم الجمركية التي فرضها مؤخرًا تكشف إلى أي مدى تمثل إدارته قطيعة صريحة مع مؤسسات لطالما شكّلت جزءًا من النظام الذي قادته الولايات المتحدة.
أكاديميًا، يفتح النقاش حول النظام العالمي المجال لطرح أسئلة قديمة حول ما ينبغي التركيز عليه: هل هو نظام الدول، أم السرديات الكبرى، أم الفاعلون السياسيون والاقتصاديون والأيديولوجيون الذين يحتلون مواقع مهيمنة في السياسة العالمية؟ كما يفتح الباب أمام نقاشات ضرورية حول مَن يُمثَّل صوته في تعريف "النظام العالمي"، متحديًا الفرضية الليبرالية الغربية التي قدمت الغرب منذ 1945 كالممثل الحصري للقيم الكونية. ومع وجود ترامب في السلطة، قد نرى عودة "نظريات الرجل العظيم" لتُطبَّق على الغرب نفسه بعد أن كانت حكرًا على تفسير السياسة في إفريقيا، وسنشهد استمرار الانقسام بين المتمسكين بالنظريات التقليدية في العلاقات الدولية حول الفوضى وتوازن القوى، وبين من يشددون على قوة الأفكار والأيديولوجيات والتمثيلات. وربما نشهد أخيرًا اهتمامًا متجددًا بدراسة النظام العالمي والحوكمة من زوايا لا تبدأ بالثنائية المصطنعة بين الغرب "الليبرالي" والـ"بقية".
التعديل الأخير: