Admin

Administrator
طاقم الإدارة
يستعرض دان وانغ ووارثر كروبر في مقالهما بمجلة Foreign Affairs مسار الصعود التكنولوجي للصين منذ إطلاق خطة "صنع في الصين 2025"، موضحَين كيف أن نجاحها لم يكن فقط نتيجة الإعانات الحكومية ودعم قطاعات محددة، بل ثمرة بناء بنية تحتية عميقة تشمل شبكات كهرباء واتصالات متطورة وقوة عاملة صناعية واسعة تتمتع بخبرة عملية. وعلى الرغم من مشكلات الهدر والفساد وضعف الاستهلاك المحلي، فإن الصين نجحت في ترسيخ مكانتها كقوة صناعية وتكنولوجية عالمية يصعب زعزعتها، مستفيدة من وفرة الطاقة الرخيصة وطموح رواد الأعمال وقدرتها على الابتكار التدريجي. في المقابل، فشلت الولايات المتحدة، رغم القيود على الصين وسياسات الدعم مثل قانون الرقائق وقانون خفض التضخم، في تحقيق نتائج مماثلة بسبب غياب استثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية العميقة. ويرى الكاتبان أن واشنطن لن تستطيع إبطاء الصين بمجرد فرض القيود، بل عليها إعادة بناء منظومتها الصناعية والابتكارية، وقبول بعض الهدر والأخطاء كجزء من السعي لاستعادة الريادة التكنولوجية.
النموذج الحقيقي للصين

The Real China Model​

قبل عقد من الزمن، كشف المخططون في بكين عن مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة طموحة للسيطرة على صناعات المستقبل. حدّد البرنامج عشرة قطاعات للاستثمار، من بينها الطاقة، وأشباه الموصلات، والأتمتة الصناعية، والمواد عالية التقنية. وكان الهدف ترقية قطاع التصنيع الصيني في هذه المجالات وغيرها، وتقليل اعتماد البلاد على الواردات والشركات الأجنبية، وتعزيز القدرة التنافسية للشركات الصينية في الأسواق العالمية. أما الهدف الأشمل فكان تحويل الصين إلى رائدة تكنولوجية وجعل شركاتها الوطنية الكبرى شركات عالمية. دعمت الحكومة هذه الرؤية بتمويل هائل، فأنفقت ما بين 1 إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا على شكل إعانات مباشرة وغير مباشرة، وقروض منخفضة التكلفة، وحوافز ضريبية.

لقد حققت الصين نجاحًا هائلًا في هذه المساعي. فهي لا تتصدر العالم في المركبات الكهربائية وتوليد الطاقة النظيفة فحسب، بل تهيمن أيضًا على الطائرات المسيّرة، والأتمتة الصناعية، ومنتجات إلكترونية أخرى. كما أن احتكارها للمغناطيسات النادرة مكّنها بسرعة من عقد صفقة تجارية مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وتخطو الشركات الصينية بخطوات ثابتة نحو إتقان إنتاج السلع التكنولوجية المتقدمة التي تنتجها الولايات المتحدة وأوروبا وأجزاء أخرى من آسيا.

ومع ذلك، لا يزال هناك العديد من المشككين في النموذج الصيني. إذ يشيرون إلى أن التمويل السخي أدى إلى هدر وفساد، وأوجد صناعات يتنافس فيها العشرات من المنتجين على تصنيع منتجات متشابهة ويعانون لتحقيق الأرباح. وقد أدت حالة الانكماش الناتجة إلى جعل الشركات حذرة من توظيف عمال جدد أو رفع الأجور، مما انعكس في انخفاض ثقة المستهلكين وتباطؤ النمو. كما أن الاقتصاد الصيني، الذي بدا في السابق على وشك تجاوز الاقتصاد الأميركي ليصبح الأكبر عالميًا، عالق الآن في حالة تباطؤ وربما لن يضاهي الاقتصاد الأميركي في إجمالي الناتج.

هذه المشكلات ليست بسيطة، لكنها أيضًا ليست كبيرة بما يكفي لوقف الزخم التكنولوجي الصيني. فقد نجحت السياسة الصناعية في بكين ليس فقط لأن المخططين اختاروا القطاعات الصحيحة ودعموها بالإعانات، بل لأنها أقامت البنية التحتية العميقة اللازمة للتحول إلى قوة تكنولوجية صامدة. فقد أنشأت نظامًا ابتكاريًا قائمًا على شبكات كهرباء ورقمية قوية، وأسست قوة عاملة ضخمة تتمتع بمعرفة متقدمة في التصنيع. يمكن تسميتها "استراتيجية التكنولوجيا الشاملة". هذا النهج مكّن الصين من تطوير تقنيات جديدة وتوسيع نطاقها بشكل أسرع من أي دولة أخرى. ومن غير المرجح أن يتأثر نموذجها كثيرًا بتباطؤ النمو الاقتصادي أو بالعقوبات الأميركية.

إن القوة الصناعية والتكنولوجية للصين أصبحت الآن سمة دائمة في الاقتصاد العالمي. وعلى الولايات المتحدة أن تنافس الصين للحفاظ على ريادتها التكنولوجية العامة وللاستمرار في دعم الصناعات اللازمة لتحقيق الازدهار الشامل والأمن القومي. لكن على صانعي السياسات الأميركيين أن يدركوا أن استراتيجيتهم الحالية—المتمثلة في القيود على التصدير، والرسوم الجمركية، والسياسات الصناعية المبعثرة—غير فعّالة. فمحاولة إبطاء الصين وحدها لن تنجح. بل يجب على واشنطن أن تركز على بناء أنظمة قوتها الصناعية عبر استثمارات طويلة الأمد وصبورة، ليس في قطاعات رئيسية محددة فحسب، بل أيضًا في البنية التحتية للطاقة والمعلومات والنقل. وإن لم تفعل، فإن الولايات المتحدة ستواجه مزيدًا من فقدان التصنيع وستخسر ريادتها التكنولوجية.​

التحوّل نحو القوة​

المضمار الشهير "نوربورغرينغ" في ألمانيا الغربية، والمعروف بلقب "الجحيم الأخضر"، يُعد من أصعب مضامير السباق في العالم بسبب مساره المتعرج الذي يمتد لمسافة 13 ميلًا عبر الجبال. إنه مضمار يختبر حتى أكثر السائقين صلابة وأحدث السيارات تقدمًا. وعادة ما تكون السيارات التي تحقق أفضل أداء من تصميم شركات ألمانية مرموقة مثل "بي إم دبليو" و"بورشه" و"مرسيدس"، أو من قبل شركات عريقة في إيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية.

لكن في يونيو 2025، شهد المضمار تسجيل رقم قياسي جديد للسرعة في فئة السيارات الكهربائية، والسيارة التي حققته لم تكن من صنع الأبطال التقليديين. بل كان الإنجاز لشركة "شاومي" الصينية، المعروفة أكثر بهواتفها الذكية متوسطة السعر وأجهزة طهي الأرز. فقد أنتجت أول سيارة لها قبل عام واحد فقط. ومع ذلك، استطاعت "شاومي" أن تصنع ثالث أسرع سيارة—كهربائية أو غير كهربائية—تمر عبر "الجحيم الأخضر".

كان انتصار "شاومي" على المضمار رمزًا للصعود السريع والمفاجئ للصين في مجال الطاقة النظيفة. ففي عام 2024، صنعت الصين ما يقرب من ثلاثة أرباع المركبات الكهربائية في العالم، وشكّلت 40 في المئة من صادرات المركبات الكهربائية عالميًا. كما تسيطر على سلسلة توريد الطاقة الشمسية. وتُنتج الشركات الصينية معظم بطاريات العالم، سواء للسيارات الكهربائية أو للاستخدامات الأخرى. كما تنتج البلاد 60 في المئة من أجهزة التحليل الكهربائي المستخدمة لاستخراج الهيدروجين من الماء، وهي الطريقة الأكثر فاعلية لإنتاج طاقة نظيفة قائمة على الهيدروجين.

التفسير المعتاد لنجاح الصين التكنولوجي هو أن الحكومة المركزية استهدفت صناعات معينة بالدعم؛ وقدمت مئات المليارات من الدولارات في شكل إعانات وحوافز ضريبية وقروض منخفضة الفائدة لإطلاق هذه القطاعات؛ وساعدت الشركات الصينية في سرقة أو نسخ التكنولوجيا من دول أخرى. هذا جزء من القصة بالفعل. لكن هذا التفسير يغفل الصورة الأوسع. فقد نجحت الصين ليس فقط لأنها دعمت صناعات محددة، بل لأنها استثمرت في البنية التحتية العميقة—الأنظمة المادية الأساسية والخبرة البشرية—التي تمكّن من الابتكار والإنتاج الفعال.

تشمل بعض هذه البنية التحتية أنظمة النقل مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ. فعلى مدار الثلاثين عامًا الماضية، بنت الصين شبكة طرق سريعة وطنية ضعف طول شبكة الطرق الأميركية، وشبكة قطارات فائقة السرعة يزيد طولها على مجموع طول جميع الشبكات المماثلة في بقية العالم، بالإضافة إلى شبكة موانئ قوية، أكبرها ميناء شنغهاي الذي ينقل في بعض الأعوام بضائع أكثر من جميع الموانئ الأميركية مجتمعة.

لكن لو توقفت الصين عند هذا الحد، لما وصلت إلى مكانتها التكنولوجية الحالية. إذ أثبتت أنظمة بنية تحتية أخرى أهميتها الحاسمة، وعلى رأسها الشبكة الرقمية للصين. فعندما كان الإنترنت في بداياته، كان يُعتقد على نطاق واسع أنه يقوّض الأنظمة السلطوية لأنه يُفقدها احتكار المعلومات ويجعل من السهل على الناس العاديين تنظيم أنفسهم عبر مسافات بعيدة. وفي عام 2000، صرّح الرئيس الأميركي بيل كلينتون أن السيطرة على الإنترنت تشبه "محاولة تثبيت الجيلي على الحائط". لكن القيادة الصينية خلصت إلى العكس. فقد راهنت على أن البنية التحتية عالية الجودة للبيانات ستقوي الحكومة من خلال تمكينها من مراقبة الرأي العام وإدارته بشكل أفضل، وكذلك تتبع تحركات الناس، في حين توفر فائدة هائلة للقطاعات الصناعية وتخلق نظامًا بيئيًا تكنولوجيًا متطورًا.

وهكذا، نجحت الصين في "تثبيت الجيلي على الحائط". فقد أنشأت إنترنت محليًا ربط بسرعة تقريبًا كل السكان، مع حجب ما يمكنهم رؤيته من الخارج. وقد أثمر هذا الرهان. فبفضل الترويج المبكر والمكثف من بكين للهواتف المحمولة، ساعدت الشركات الصينية في ريادة الإنترنت المحمول. وأصبحت منصات كبرى مثل "بايت دانس" و"علي بابا" و"تينسنت" من أبرز المبتكرين على مستوى العالم. كما أصبحت "هواوي" المنتج الأول عالميًا لمعدات الجيل الخامس. أما الشعب الصيني، فيستخدم الهواتف الذكية بشكل مستمر، فيما يظل الحزب الشيوعي ممسكًا بزمام الأمور تمامًا.​

إنه كهربائي​

النظام الأساسي التالي الذي يقف وراء تفوق الصين هو شبكتها الكهربائية. فعلى مدى ربع القرن الماضي، تصدرت الصين العالم في بناء محطات الطاقة، مضيفةً كل عام ما يعادل إجمالي إمدادات المملكة المتحدة. وهي الآن تُولّد كهرباء سنوية أكثر مما تنتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معًا. وقد استثمرت بكثافة في خطوط النقل الفائقة الجهد، القادرة على نقل الكهرباء بكفاءة لمسافات طويلة، وكذلك في جميع أشكال تخزين البطاريات. وقد أتاح هذا الإمداد الوفير من الكهرباء النمو السريع لأنظمة النقل المعتمدة عليها، وعلى رأسها القطارات فائقة السرعة والمركبات الكهربائية.

لقد تغلبت الصين على العقبات التي طالما منعت الكهرباء من أن تصبح المصدر الرئيسي للطاقة في العالم وتحل محل الاحتراق المباشر للوقود الأحفوري: صعوبة نقلها، وصعوبة تخزينها، وعدم فعاليتها في تشغيل وسائل النقل. ونتيجة لذلك، تسير الصين بخطى سريعة نحو أن تصبح أول اقتصاد في العالم يعمل أساسًا بالكهرباء. فالكهرباء تمثل 21 في المئة من استخدام الطاقة عالميًا، و22 في المئة من استخدام الطاقة في الولايات المتحدة. أما في الصين، فتقترب النسبة من 30 في المئة من استهلاك الطاقة، وهي أعلى من أي دولة كبرى أخرى باستثناء اليابان. وهذه الحصة تنمو بسرعة: حوالي 6 في المئة سنويًا، مقارنة بـ 2.6 في المئة عالميًا و0.6 في المئة فقط في الولايات المتحدة.

لكن هذا التحول الكهربائي لم ينشأ عن خطة مركزية كبرى، بل كان نتاج استجابات تكنوقراطية لقضايا محددة مثل نقص الطاقة في المناطق الصناعية والحاجة إلى تحرير قدرة السكك الحديدية لاستخدامات أخرى غير نقل الفحم. غير أن التسارع الكهربائي الآن يخدم هدفًا استراتيجيًا واضحًا. فهو محرّك للابتكار الصناعي—“تغذية المستقبل”، كما وصفه داميان ما وليزي لي في مقال بمجلة فورين أفيرز في يوليو. وتدرك الحكومة تمامًا أن الكهرباء الوفيرة والرخيصة تمنح البلاد ميزة حاسمة في الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة في المستقبل، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. ومن ثم تسعى بكين جاهدة لضمان أن تبقى منظومتها الكهربائية الأكبر والأفضل في العالم.

أما البنية التحتية الأعمق والأكثر دقة فهي قوة العمل الصناعية في الصين، التي تتجاوز 70 مليون شخص—أكبر قوة عاملة صناعية في العالم. وبفضل التوسع المكثف في سلاسل التوريد التصنيعية المعقدة، يمتلك مدراء المصانع والمهندسون والعمال الصينيون عقودًا من "معرفة العمليات"—أي المعرفة العملية المكتسبة من الخبرة—حول كيفية صنع الأشياء وكيفية تحسينها. وهذه المعرفة العملية تمكّن من الابتكار التدريجي، أي تعديل المنتجات باستمرار لجعل إنتاجها أكثر كفاءة وجودة وأقل تكلفة. كما تمكّن من التوسع: إذ تستطيع المصانع الصينية حشد قوة عاملة كبيرة وذات خبرة لإنتاج أي منتج جديد تقريبًا. وأخيرًا، وهو الأهم، تتيح معرفة العمليات للصين إنشاء صناعات جديدة بالكامل. فقد يعمل عامل في شينزين على تجميع هواتف آيفون عامًا ما، ثم هواتف "هواوي ميت" في العام التالي، ثم ينتقل إلى تصنيع طائرات مسيّرة لشركة DJI أو بطاريات سيارات كهربائية لشركة CATL.

قد تكون معرفة العمليات في القوة العاملة الصينية أعظم الأصول الاقتصادية لبكين. لكن يصعب قياسها. وهذا أحد الأسباب التي جعلت العالم مرارًا يستخف بقدرات الصين. فبعض المحللين يعتقدون أن الصين هي الدولة التي تجمع معظم هواتف العالم الذكية وغيرها من الإلكترونيات فقط لأن تكاليف العمالة فيها منخفضة. لكن الحقيقة أن الصين تظل في الصدارة لأنها أثبتت قيمتها في التعقيد والقدرة على التوسع والسرعة.

كما يغفل المحللون عن الطموح الجامح لرواد الأعمال الصينيين. فالبلاد مليئة برجال الأعمال الذين يملكون التفاؤل والجرأة—أو ربما الطيش—لتجربة إحداث تغيير في قطاعات بأكملها. ففي عام 2021، راهن المؤسس الأسطوري لشركة "شاومي"، لي جون، على السيارات الكهربائية، معلنًا أن شركته، التي كانت تبلغ قيمتها آنذاك 80 مليار دولار، ستستثمر 10 مليارات دولار فيها، وأن هذا سيكون "آخر مشاريعه الريادية الكبرى". وعلى مضمار السباق الألماني، أثمر رهانه. إذ استطاع أن يستفيد من نظام بيئي إلكتروني، وشركاء في مجال البطاريات، وقوة عاملة ذات خبرة لصنع سيارات كهربائية عالية السرعة خلال بضع سنوات فقط.

ولفهم سبب معاناة الشركات الأميركية غالبًا في فعل الشيء نفسه، يمكن مقارنة تجربة "شاومي" بتجربة "آبل". ففي عام 2014، درست الشركة العملاقة فكرة تطوير سيارات كهربائية. لم تكن فكرة مجنونة على الإطلاق. فقد كانت "آبل" تمتلك رسملة سوقية بقيمة 600 مليار دولار واحتياطيات نقدية قدرها 40 مليار دولار، ما يمنحها قدرة مالية أكبر بكثير من "شاومي". وبالمقاييس التقليدية، كانت أيضًا أكثر تطورًا تكنولوجيًا. لكن الولايات المتحدة لم تكن تمتلك النظام الطاقي ولا القدرة التصنيعية التي لدى الصين، وبالتالي لم يكن هناك بنية تحتية سهلة يمكن لـ "آبل" الاعتماد عليها. ونتيجة لذلك، قرر مجلس إدارتها في عام 2024 إلغاء عقد من العمل على مشروع السيارات الكهربائية. في ذلك العام نفسه، وسعت "شاومي" قدرتها الإنتاجية ورفعت أهداف التسليم عدة مرات. وفي الأثناء، تواجه "تسلا"، بطلة السيارات الكهربائية الأميركية، تراجعًا في المبيعات في جميع أسواقها الكبرى، بما في ذلك الصين. وأصبح المشترون الصينيون الآن يرون أن العلامات التجارية المحلية أكثر ابتكارًا من "تسلا"، وأكثر انسجامًا مع الأذواق الاستهلاكية المتغيرة بسرعة.​

رد فعل سلبي​

من الخطأ الاستهانة بالصين. لكن البلاد تواجه تحديات اقتصادية جدية، ينشأ الكثير منها، على الأقل جزئيًا، من السياسات الصناعية نفسها التي قادتها إلى انتصاراتها. فقد وجّه التكنوقراط الصينيون الموارد ليس فقط نحو البنية التحتية ذات الإنتاجية العالية، بل أيضًا إلى مؤسسات مملوكة للدولة لا تساهم إلا قليلًا في النظام التقني النابض بالحياة، بينما تراكم ديونًا ضخمة وتثقل كاهل كفاءة الاقتصاد. أما القيود المفروضة بدوافع سياسية على بعض أبرز رواد الأعمال المبدعين في البلاد، مثل جاك ما مؤسس "علي بابا"، وتشانغ ييمنغ المؤسس المشارك لشركة "بايت دانس"، واللذين أُهينا عندما وسّعت بكين نفوذها على الإنترنت الاستهلاكي، فقد أثارت برودة في ثقة القطاع الخاص.

في الوقت نفسه، أدت الإعانات غير المنضبطة إلى تفشي الفساد. وأبرز مثال على ذلك هو صناعة أشباه الموصلات في الصين، التي تلقت أكثر من 100 مليار دولار من الدعم المباشر لسياسة الدولة الصناعية منذ عام 2014. بعض المشاريع التي موِّلت بهذا المال كانت عمليات احتيال صريحة. أما المشاريع الأخرى فكانت مشروعة، لكن رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين سرقوا منها. وقد سُجن أكثر من عشرة من كبار شخصيات صناعة الرقائق منذ عام 2022 بتهم فساد، من بينهم رئيس مجموعة "تسينغهوا يونيغروب" (التي تدير عدة شركات تصنيع مهمة للرقائق) ورئيس الصندوق الوطني للدارات المتكاملة. كما أُقيل وزيرا صناعة وتكنولوجيا معلومات حاليان بسبب الفساد.

وقد تؤدي إعانات الصين أحيانًا إلى كبح الابتكار. فبينما تساعد النفقات السخية على التصنيع في تعزيز النظام التقني، فإنها تُمكّن أيضًا الشركات الأقل كفاءة من البقاء في السوق فترة أطول بكثير مما كان ليحدث في اقتصاد أكثر اعتمادًا على السوق. وهذا يخفض الأرباح للجميع، إذ تضطر الشركات باستمرار إلى خفض أسعارها للحفاظ على حصتها السوقية. وهو ما يعني بدوره أن شركات التصنيع لا يمكنها إنفاق الكثير على البحث والتطوير. بل إنها تحتاج إلى الحذر في توظيف موظفين جدد أو رفع الأجور.

وصناعة الطاقة الشمسية مثال واضح. فامتلاك سلسلة التوريد الشمسية يُعد انتصارًا استراتيجيًا للدولة، لكن شركات إنتاج الوحدات الشمسية تبيع في الغالب منتجات غير متمايزة، تتصارع على أرباح ضئيلة بينما تخفض الأسعار إلى أدنى الحدود. وينطبق الأمر نفسه على مصنّعي المركبات الكهربائية، والهواتف الذكية، والعديد من المنتجات الأخرى، حيث تنتج شركات كثيرة منتجات متشابهة بهوامش ربح ضئيلة للغاية. إن قطاعات التكنولوجيا الصينية قصص نجاح عالمية، لكن الشركات العاملة فيها تعاني غالبًا.

وإذا كانت بكين سخية جدًا مع شركات التكنولوجيا والتصنيع، فإنها ليست سخية بما يكفي مع مقدمي الخدمات. فهي تفرط في تنظيم القطاعات الخدمية، فتقمع شركات الإنترنت التي تراها تمارس احتكارًا أو تهدد الاستقرار السياسي أو الاجتماعي. كما تُحكم سيطرتها على التمويل والرعاية الصحية والتعليم. ونتيجة لذلك، كان نمو الوظائف في هذه القطاعات ضعيفًا، مما يعني أن نمو الوظائف في الصين ككل عانى بشكل كبير. وحتى في هذا البلد الصناعي الطابع، توظف الخدمات نحو 60 في المئة من القوى العاملة الحضرية، وشكلت كامل صافي خلق الوظائف في العقد الماضي. ومع صعوبة الحصول على وظائف، وضعف نمو الأجور أو توقفه، وانخفاض أسعار المنازل—التي تُعد الأصل الرئيسي لمعظم الصينيين—أصبح المستهلكون الصينيون مترددين في الإنفاق. أما الشركات الخاصة، التي ترى ضعف الطلب، فقد ازدادت ترددًا في التوظيف أو رفع الأجور.

إذن، يكاد النموذج الحالي للصين أن يضمن تباطؤ النمو الاقتصادي. فبفضل الدائرة المفرغة التي خلقتها بكين، يكافح الاقتصاد الآن بشكل روتيني لتحقيق هدف النمو السنوي البالغ خمسة في المئة، ويواجه باستمرار خطر الانكماش. وفي الوقت نفسه، وبسبب ضعف الطلب المحلي، سيتعين تصدير المزيد والمزيد من إنتاج القطاع التصنيعي الصيني الغزير الإنتاجية، مما سيؤدي إلى فوائض تجارية متزايدة. وفائض الصين التجاري الآن يقارب التريليون دولار، أي أكثر من ضعف الرقم المسجل قبل خمس سنوات فقط.

المخاطر بالنسبة لبكين واضحة. فالتباطؤ يعني أن الاقتصاد قد يصبح أقل ديناميكية، وقد تفقد شركات التكنولوجيا القدرة أو الحافز على الاستمرار في الابتكار. كما أن الفوائض التجارية المتزايدة قد تُشعل حمائية أشد وأكثر تنسيقًا من بقية العالم، حيث تنضم عشرات الدول إلى الولايات المتحدة في فرض حواجز جمركية أمام الواردات الصينية.

لكن من المرجح أن تتغلب بكين على هذه المخاطر، تمامًا كما تغلبت على العديد من التحديات في الماضي. فقد بدأت تدرك أن الإعانات مرتفعة للغاية وشرعت في سحبها. وستغادر الشركات الأصغر والأقل كفاءة السوق. ويظهر الاندماج بالفعل في قطاع السيارات الكهربائية، حيث انخفض عدد الشركات من 57 إلى 49 منذ عام 2022. ويبيع الآن ثلث منتجي المركبات الكهربائية ما لا يقل عن 10,000 سيارة شهريًا، ارتفاعًا من أقل من ربع المنتجين قبل ثلاث سنوات. أما بالنسبة للحمائية، فستجد معظم الدول ببساطة أنه لا توجد بدائل فعالة من حيث التكلفة للمنتجات التي تصدرها الصين. وهناك أيضًا طرق للتحايل على الحواجز الجمركية، مثل شحن البضائع عبر دول ثالثة أو إنشاء مصانع تجميع في دول أخرى (كما تفعل شركة "بي واي دي" الصينية في البرازيل والمجر).

ومن جهتهم، يبدو أن المسؤولين الصينيين يعتقدون أن تكلفة النمو المنخفض والانكماش واستياء الشركاء التجاريين تستحق أن تُدفع. فقد قال الزعيم الصيني شي جين بينغ في عام 2020: "يجب أن ندرك الأهمية الجوهرية للاقتصاد الحقيقي… وألا نتجه أبدًا نحو إزالة التصنيع"، في عام واجه فيه مصنعو الصين تحديات جائحة كوفيد-19 عبر زيادة إنتاج المعدات الطبية والسلع الاستهلاكية. وكانت الرسالة واضحة: الهدف الأساسي لبكين ليس النمو السريع، بل الاكتفاء الذاتي والتقدم التكنولوجي.​

لا يمكن إيقافه​

لم تقف واشنطن مكتوفة الأيدي فيما تتقدم القطاعات التكنولوجية والتصنيعية في الصين. فمع قلقها من طموحات "صنع في الصين 2025"، أعادت إدارة ترامب الأولى الحياة إلى بعض المكاتب الأكثر خمولًا داخل وزارة التجارة، مستدعية جهازًا بيروقراطيًا قويًا لخنق وصول الصين إلى المواد الحيوية. فقد أدرك المسؤولون الأميركيون أن الصين تعتمد بشدة على مدخلات التكنولوجيا الغربية، مثل أشباه الموصلات المتقدمة ومعدات تصنيعها. وهكذا راهنوا على أن حصارًا كاملًا لهذه التقنيات سيبطئ بشدة المحرك التكنولوجي للصين. وكان هذا إجماعًا بين الحزبين: فعندما تولى الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه عام 2021، أبقى على قيود سلفه. بل إن إدارة بايدن شددت ضوابط التصدير على الرقائق المتقدمة، خصوصًا تلك الضرورية للذكاء الاصطناعي، وعلى معدات أشباه الموصلات.

ومع ذلك، فإن نجاح هذه القيود كان محدودًا في أحسن الأحوال. ففي عام 2018، كادت شركتا التكنولوجيا الصينيتان الكبيرتان "زد تي إي" و"فوجيان جينهوا" تنهاران بعد قطع إمدادات التكنولوجيا الأميركية عنهما. لكن شركات أكثر قدرة، مدعومة بمحامين ولوبيات في واشنطن، تمكنت من التعافي. (وقد رفع ترامب مؤخرًا القيود عن الرقائق المتقدمة للذكاء الاصطناعي التي تنتجها "إنفيديا"، مما سمح لها ببيع منتجاتها مرة أخرى إلى الصين). وبالفعل، تضررت "هواوي" بشدة بعد أن فرضت وزارة التجارة عقوبات عليها عام 2019. لكن بحلول 2025، أعلنت الشركة أن إيراداتها في العام السابق عادت إلى مستويات 2019. وما زالت تُعد الشركة نفسها، المتميزة في تصنيع معدات الجيل الخامس والهواتف، لكنها أصبحت أيضًا من أبرز مبتكري أشباه الموصلات في الصين بعد أن استثمرت مليارات الدولارات في استبدال الرقائق الأميركية.

وحققت شركات أخرى أداءً أفضل في مواجهة القيود الأميركية. فقد ضاعفت "SMIC"، إحدى أهم مسابك الرقائق الصينية، إيراداتها منذ فرض العقوبات عليها في 2020. وما زالت متأخرة كثيرًا عن "TSMC" الرائدة عالميًا في الربحية، لكنها حققت بعض الاختراقات التقنية، إذ تعلمت إنتاج رقائق بحجم سبعة نانومتر—وهو إنجاز كان يُعتبر مستبعدًا بعد العقوبات. وبالمثل، لم تمنع القيود المفروضة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي صعود شركة "ديب سيك"، التي طورت نموذج استدلال ذكاء اصطناعي لا يضاهيه سوى عدد قليل من الشركات، جميعها في وادي السيليكون.

وليس من الصعب فهم سر نجاح "ديب سيك". فشركات الذكاء الاصطناعي الصينية قد لا تتمتع بنفس إمكانية الوصول إلى الرقائق المتقدمة مثل نظيراتها الأميركية، لكنها تملك وفرة من المواهب الممتازة، ورقائق ناضجة، وأحواض بيانات ضخمة. كما أن لديها إمدادًا شبه غير محدود من الكهرباء الرخيصة—وهو ما يفتقده منافسوها في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، فإن النماذج اللغوية الكبيرة الصينية متأخرة، وفقًا للمعايير الفنية العالمية، ستة أشهر فقط في أقصى تقدير عن نظيراتها الأميركية، والفجوة تتقلص باستمرار. وبعيدًا عن إعاقة التقدم الصيني، أطلقت القيود الأميركية "لحظة سبوتنيك" جديدة في الصين. فأصبحت شركاتها أكبر وأكثر صلابة وأقل اعتمادًا بكثير على الشركات الأميركية مما كانت عليه قبل عقد واحد فقط.

ويدرك بعض المسؤولين الأميركيين أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تكسب فقط عبر مهاجمة الصناعات الصينية. فقد أنشأ مخططو إدارة بايدن، على سبيل المثال، سياسة صناعية لمساعدة الولايات المتحدة على دفع قطاعاتها الاستراتيجية قدمًا. وأقرّت البلاد "قانون الرقائق" (CHIPS Act) لدعم إنتاج أشباه الموصلات، و"قانون خفض التضخم" لدعم التقنيات النظيفة. لكن رغم تخصيص مئات المليارات من الدولارات، فقد تعثرت هذه المساعي إلى حد كبير.

والسبب في هذه الإخفاقات بسيط: لم تبنِ الولايات المتحدة بنية تحتية عميقة كافية خاصة بها. ففي بداية ولايته، كشف بايدن عن خطة طموحة لتوفير خدمة الإنترنت لكل الأميركيين تقريبًا. لكن هذا المشروع، "الإنترنت للجميع"، لم يربط أي شخص قبل أن يغادر منصبه. وما زالت البلاد بلا شبكة وطنية لمحطات شحن المركبات الكهربائية، رغم تخصيص الكونغرس مليارات لإنشائها. كما فشلت واشنطن في إزالة العقبات البيروقراطية والتنظيمية أمام بناء أنظمة نقل الكهرباء، وهو ما يجعل من الصعب على شركات الطاقة الاستفادة من الاعتمادات الضريبية التي أوجدها "قانون خفض التضخم" لمشاريع الطاقة الشمسية والرياح.

والآن، باتت تلك الاعتمادات مهددة بالزوال. فمشروع قانون المصالحة في الميزانية، الذي أقره ترامب في يوليو، يوقف تدريجيًا إعانات الطاقة الشمسية والرياح لمعظم المشاريع التي لم تبدأ قبل نهاية 2026. أما "قانون الرقائق" فما زال ساريًا، لكن الرئيس سخر منه واصفًا إياه بـ"المريع" و"السخيف". وفي الأثناء، تسببت رسوم ترامب الجمركية في حالة من عدم اليقين العميق بين المصنّعين، الذين أوقفوا استثماراتهم بينما يحاولون يائسًين الحفاظ على سلاسل توريدهم. ويزعم البيت الأبيض أن الرسوم ستجبر المصنّعين على إنتاج سلعهم على الأراضي الأميركية بمجرد أن تدخل القيود حيّز التنفيذ الكامل. لكن تحليل الإدارة معيب. فالمصنّعون يعتمدون على الواردات في الكثير من مدخلاتهم، وقد ترددوا في اتخاذ قرارات استثمارية كبرى بناءً على تصريحات ترامب المتقلبة. وفي الواقع، فقدت البلاد أكثر من 10,000 وظيفة تصنيع بين أبريل ويوليو فقط، مباشرة بعد إعلان ترامب خطته لفرض رسوم جمركية عالية على كل دول العالم تقريبًا.

وبالطبع، لا يُعد ترامب فريدًا في فشله في تحقيق الوعود. فالساسة الأميركيون يحبون الاحتفال كلما افتتح منجم جديد أو منشأة لأشباه الموصلات. لكن القطاع الصناعي الأميركي ما زال يتقلص وسط تأخيرات في الإنتاج، وتسريحات للعمال، وتراجع في الجودة. أما الإنتاج الصناعي الحقيقي، الذي كان يرتفع بثبات حتى الأزمة المالية عام 2008، فقد انهار حينها ولم يتعافَ قط. ويحدث هذا الانكماش حتى في التصنيع الدفاعي. فعلى الرغم من تدفق الأموال، فإن كل فئات السفن البحرية الأميركية تقريبًا التي هي قيد الإنشاء متأخرة عن الجدول الزمني، بعضها بما يصل إلى ثلاث سنوات. كما أن منتجي قذائف المدفعية يزيدون الإنتاج ببطء شديد، رغم أن واشنطن استنزفت مخزونها لدعم أوكرانيا. كما فشلت الجهود الأميركية للتخلص من اعتمادها العسكري على المعادن الأرضية النادرة القادمة من الصين.

ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بتفوقها على الصين في عدة مجالات حيوية: البرمجيات، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى منظومة الابتكار التي تقودها الجامعات. لكن مستقبل هذه المؤسسات غامض. فمنذ عودته إلى منصبه، بدأ ترامب في تقليص تمويل البحث العلمي وحرمان البلاد من العمالة الماهرة. وأصبحت الوكالات الحكومية تدقق في كبرى الجامعات، مثل هارفارد وكولومبيا، وتسحب منحًا حكومية وتهدد بإلغاء إعفائها الضريبي بسبب اتهامات مبالغ فيها بمعاداة السامية. كما قلّص البيت الأبيض التمويل للمؤسسة الوطنية للعلوم والمعاهد الوطنية للصحة. وفي الوقت نفسه، أدت عدائية ترامب تجاه المهاجرين إلى دفع باحثين كانوا سيأتون إلى الولايات المتحدة للبحث عن وظائف في شركات وجامعات أخرى خارجها. كما أن عمليات الترحيل المكثفة تضر بصناعة البناء الأميركية. وباختصار، لم تُعِد البلاد تهيئة منظومة ابتكارها بشكل جيد للسنوات المقبلة.​

العودة إلى الأساسيات​

يمكن للولايات المتحدة، بل ويجب عليها، أن تعكس التخفيضات في الإنفاق والقيود على الهجرة التي فرضها ترامب في أسرع وقت ممكن. لكن المنافسة الفعّالة مع الصين تتطلب أكثر من مجرد إزالة القيود الذاتية. فإخفاقات واشنطن تمتد عبر إدارات متعاقبة لسبب واضح: المسؤولون الأميركيون، ديمقراطيون وجمهوريون على حد سواء، لم يأخذوا كفاءة الصين على محمل الجد. فقد كتب السيناتور توم كوتون من أركنساس على وسائل التواصل الاجتماعي في أبريل: "الصين لا تبتكر—إنها تسرق"، وهو ما يجسّد الطريقة التي يستخف بها الأميركيون بإنجازات الصين. ولا يزال كثير من القادة الأميركيين يعتقدون أن نظامًا أكثر دقة للسيطرة على الصادرات كفيل بإيقاف الزخم التكنولوجي للصين. إنهم يرسلون محامين إلى معركة هندسية. وعليهم أن يدركوا أنه مهما شددت الولايات المتحدة قبضتها، فإنها لن تحطم النظام الصناعي والتكنولوجي الصيني.

ما ينبغي على واشنطن فعله هو تقوية قدراتها الذاتية. وهذا يعني بدء العمل الصعب المتمثل في بناء البنية التحتية العميقة الخاصة بالولايات المتحدة. ولا يتعين على واشنطن أن تحاول تكرار استثمارات بكين الضخمة والمهدِرة في جميع الأنظمة، لكنها يجب أن تقدم ما هو أفضل من نهج بايدن المتقطع قطاعًا بقطاع. كما يجب أن تتخلى عن استراتيجية ترامب القائمة على أمل أن تجبر العصا الجمركية الشركات على إعادة الصناعة إلى الداخل، وعن تركيزه على الصناعات الثقيلة القديمة مثل الفولاذ.

بدلًا من ذلك، يجب على صانعي السياسات الأميركيين أن يفكروا بعقلية النظام البيئي، كما فعلت الصين. فالولايات المتحدة تملك نقاط قوة راسخة في ريادة الأعمال والتمويل، وبالتالي فإن الاستثمارات التي تقودها الدولة في البنية التحتية الحديثة العميقة من المرجح أن تحقق عوائد كبيرة، تمامًا كما فعلت الاستثمارات في السكك الحديدية والطرق السريعة في القرنين التاسع عشر والعشرين. يمكن للمشاريع الضخمة للبنية التحتية أن تحفّز الطلب على تقنيات متنوعة وتخلق "معرفة عملياتية" ضرورية لبنائها، وهي خطوات أولى أساسية لإعادة بناء القاعدة الصناعية. وأولوية قصوى يجب أن تكون بناء نظام كهربائي أكبر وأفضل يستخدم الطاقة النووية والغاز الطبيعي ومصادر الطاقة المتجددة. ولتعظيم استخدام الطاقة المتجددة، ينبغي على الولايات المتحدة الاستثمار في بناء مزيد من مرافق تخزين البطاريات وخطوط النقل عالية الجهد.

كما ستحتاج الولايات المتحدة إلى إيجاد طرق لتقليل هيكل التكاليف في صناعاتها. فبما أنها دولة غنية ذات أجور عالية ومعايير صارمة في العمل والبيئة، فلن تتمكن أبدًا من منافسة الصين أو الهند من حيث توافر العمالة منخفضة التكلفة، ولا ينبغي لها أن تحاول. لكن إذا كانت جادة بشأن إعادة بناء الصناعة، فعلى واشنطن أن تُظهر التزامًا بجعل أسواقها جاذبة للقطاعات كثيفة رأس المال. إن إلغاء الرسوم الجمركية المدمّرة التي فرضها ترامب، والتي تجعل التصنيع الأميركي مكلفًا للغاية، أمر ضروري، وكذلك توفير طاقة وفيرة ورخيصة. لكن الإصلاح التنظيمي الذي يزيل التكاليف المفرطة للبناء الجديد ضروري أيضًا، إلى جانب تمويل حكومي واسع للبحث والتطوير الأساسي، وسياسات هجرة ليبرالية تمكّن الشركات من استقطاب أفضل المواهب من أي مكان في العالم. والأمر الأخير ليس مجرد إجراء لخفض التكاليف، لكنه أساسي لإعادة بناء "المعرفة العملية" الأميركية. فالكثير من هذه المعرفة موجود الآن في الخارج، ويجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لاستيرادها.

وفوق كل شيء، يجب على واشنطن ألا تستهين بما تواجهه. فقد جعلت بكين تحقيق التفوق التكنولوجي أولوية سياسية قصوى. صحيح أن الإعانات التي استخدمتها لدفع التقدم التكنولوجي أنتجت الكثير من الهدر، لكن ذلك كان أثرًا جانبيًا لبلوغ القيادة في صناعات المستقبل. وإذا أرادت الولايات المتحدة أن تنافس، فعليها هي الأخرى أن تلتزم بقيادة هذه الصناعات، وأن تكون أكثر استعدادًا لقبول الأخطاء وبعض الهدر كثمن للنجاح.

لقد نجح نموذج الصين لأن صانعي سياساتها أحسنوا القيام بالكثير من الأمور، ووفّروا لرواد الأعمال الصينيين الظروف اللازمة للنجاح. قد تواجه البلاد مشكلات، لكنها ستظل فعّالة. وكلما طال نجاحها، زادت وتيرة تراجع التصنيع في الولايات المتحدة وحلفائها تحت ضغط الشركات الصينية في مجالات الطاقة والسلع الصناعية وربما حتى الذكاء الاصطناعي. وإذا أرادت الولايات المتحدة أن تنافس بفعالية، فعلى صانعي سياساتها أن يقضوا وقتًا أقل في التفكير بكيفية إضعاف خصمهم، ووقتًا أطول في معرفة كيفية جعل بلادهم أفضل وأكثر حيوية.​
 
عودة
أعلى