في مقالهما المنشور في مجلة Foreign Affairs، يجادل ستاسي إي. جودارد وجوشوا دي. كيرتزر بأن اضطراب الاستراتيجية الكبرى الأميركية يكشف عن غياب الوعي النظري في صنع القرار السياسي، إذ إن النقاش الدائر في واشنطن حول موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي يعكس — من دون وعي — صراعًا بين ثلاث مدارس فكرية رئيسة في العلاقات الدولية: الواقعية، والليبرالية، والبنائية. يوضح الكاتبان أن الواقعيين يرون العالم محكومًا بالفوضى والمنافسة على القوة، بينما يعتقد الليبراليون أن المؤسسات والديمقراطية والتجارة الحرة قادرة على ضمان التعاون الدولي، في حين يؤكد البنائيون على دور القيم والمعايير في تشكيل السياسة العالمية. ويحذّر المقال من أن تجاهل هذه النماذج يجعل صُنّاع القرار أسرى افتراضاتٍ غير معلنة تؤدي إلى استراتيجيات متناقضة، كما حدث في التعامل مع روسيا أو الصين. ويخلص الكاتبان إلى أن إعادة دمج النقاش النظري في صناعة القرار ضرورية لبناء سياسة خارجية متماسكة، منتقدَين سعي إدارة ترامب إلى إغلاق مراكز التفكير التي كانت تربط الأكاديميا بالسياسة، ما يجعل واشنطن تسير في العتمة الفكرية بدلًا من الرؤية الاستراتيجية.
How to Put IR Theory Into Practice
الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة تمرّ بمرحلة اضطراب. فعلى مدى العقد الماضي، أدّت تحولات القوة، والنزاعات الإقليمية، وتراجع فعالية المؤسسات الدولية إلى إذكاء نقاشٍ محتدمٍ حول الموقع الجيوسياسي الذي تجد الولايات المتحدة نفسها فيه، والمسار المطلوب لسياساتها الخارجية. يرى بعض المحللين وصنّاع القرار في واشنطن — مثل ناديا شادلو نائبة مستشار الأمن القومي الأميركي سابقًا للاستراتيجية، وإلبريدج كولبي وكيل وزارة الدفاع — أن المنافسة بين القوى العظمى قد عادت بعد عقودٍ من الهيمنة الأميركية، وأن على واشنطن أن تتبنى سياسة خارجية تهدف إلى مواجهة التهديدات القادمة من بكين وموسكو. في المقابل، يرى آخرون — مثل ريبيكا ليسنر وميرا راب-هوبر من أعضاء إدارة بايدن السابقة — أن التعددية الليبرالية التي ميّزت النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية مهددة لكنها لم تنهَر بعد، وينبغي على القادة الأميركيين التمسك باستراتيجية كبرى تدعم المؤسسات القوية، والديمقراطية، والتجارة الحرة. وهناك من يعتقد — مثل الدبلوماسي الأميركي السابق مايكل ماكفول والكاتبة آن أبلباوم — أن اللحظة الراهنة تتميز بتحدٍّ متزايدٍ للمعايير الدولية، إذ تشعر الدول التصحيحية اليوم بقدرةٍ أكبر على انتهاك القواعد التي كانت تحدّ من النزاعات وتدعم حقوق الإنسان وتحمي السيادة. ويشير هؤلاء المحللون إلى أن على الولايات المتحدة الدفاع عن هذه القواعد الحيوية بشكلٍ صريح من خلال تعزيزها في الخارج.
وعلى الرغم من اختلاف هذه الطروحات، فإنها تشترك في أساسٍ واحد: فهي جميعًا تستند إلى أحد النماذج الثلاثة التي هيمنت على نظرية العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الواقعية، والليبرالية، والبنائية. يرى الواقعيون أن السياسة تنبع من حالة الفوضى في النظام الدولي، ما يدفع الدول إلى التنافس على القوة والأمن. بينما يفترض الليبراليون أن الأفراد يسعون جميعًا إلى تحقيق منافع عامة عالمية، لا يمكن ضمانها إلا عبر الديمقراطية والاقتصادات المفتوحة والمؤسسات المتعددة الأطراف. أما البنائيون فيؤمنون بأن تبنّي الأفكار والمعايير السياسية من قبل القوى الكبرى يوجّه مسار العلاقات الدولية بقدر ما تفعله الإرادة في القوة لدى الدول.
غالبًا ما يستخفّ الممارسون بهذه النظريات ويعتبرونها بعيدة عن الواقع العملي لصنع القرار. ففي عام 2010، اشتكى الدبلوماسي الأميركي المخضرم ديفيد نيوسوم من أن هذه النظريات “إما غير ذات صلة أو غير مفهومة لصنّاع القرار”، وظلّت “محصورة في دائرة من النقاش الأكاديمي الغامض”. ويُعدّ هذا الانقسام بين النظرية والممارسة مشكلة في الأوقات العادية، وخطرًا في فترات الاضطراب. فالكثير من الأصوات التي تقود النقاش حول السياسة الخارجية في واشنطن تستند ضمنًا إلى هذه النماذج النظرية، ما يؤدي إلى ظهور توصيات استراتيجية متعارضة يصعب مناقشتها أو التوفيق بينها، لأنها تقوم على افتراضاتٍ مختلفة جذريًا حول كيفية عمل النظام الدولي. فإذا كانت افتراضات الواقعيين حول القوة والأمن صحيحة، فعلى الولايات المتحدة أن تستعد لعقودٍ من منافسة القوى الكبرى. أما إذا كانت قناعات الليبراليين حول عالمية الرغبات الإنسانية دقيقة، فيجب على صنّاع القرار الأميركيين العمل على إعادة بناء النظام الليبرالي وتعزيزه. أما إذا كانت افتراضات البنائيين هي الأقرب للواقع، فإن أي استراتيجية كبرى أميركية ينبغي أن تظل متجذّرة في القيم والمعايير المشروعة.
وللتغلب على هذا الارتباك، يحتاج صانعو السياسات في واشنطن إلى تخصيص وقتٍ أكبر — لا أقل — لمناقشة الأسس الفكرية التي تقوم عليها توصياتهم الاستراتيجية. فمن غير المرجّح أن يقدّم أيّ نموذجٍ واحد الطريق الصحيح للمستقبل، لكن ما لم يعترف الأكاديميون وصنّاع القرار صراحةً بالجذور النظرية التي تنبع منها رؤاهم، فسيستمرّ كلٌّ منهم في الحديث بلغةٍ لا يفهمها الآخر.
وللأسف، سعت إدارة ترامب إلى تفكيك المنتديات القائمة — مثل مكتب التقييم الصافي في وزارة الدفاع الأميركية — التي كانت تُعرّض صنّاع القرار، بحسب وصف وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس، إلى “المفكرين والأفكار الجديدة”. إن إعادة إحياء مثل هذه المنصات التي يلتقي فيها الأكاديميون والاستراتيجيون لمناقشة النماذج المتنافسة أمرٌ حيويّ لصياغة استراتيجية كبرى متماسكة في عصرٍ يتّسم بعدم اليقين.
وعلى الرغم من اختلاف هذه الطروحات، فإنها تشترك في أساسٍ واحد: فهي جميعًا تستند إلى أحد النماذج الثلاثة التي هيمنت على نظرية العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الواقعية، والليبرالية، والبنائية. يرى الواقعيون أن السياسة تنبع من حالة الفوضى في النظام الدولي، ما يدفع الدول إلى التنافس على القوة والأمن. بينما يفترض الليبراليون أن الأفراد يسعون جميعًا إلى تحقيق منافع عامة عالمية، لا يمكن ضمانها إلا عبر الديمقراطية والاقتصادات المفتوحة والمؤسسات المتعددة الأطراف. أما البنائيون فيؤمنون بأن تبنّي الأفكار والمعايير السياسية من قبل القوى الكبرى يوجّه مسار العلاقات الدولية بقدر ما تفعله الإرادة في القوة لدى الدول.
غالبًا ما يستخفّ الممارسون بهذه النظريات ويعتبرونها بعيدة عن الواقع العملي لصنع القرار. ففي عام 2010، اشتكى الدبلوماسي الأميركي المخضرم ديفيد نيوسوم من أن هذه النظريات “إما غير ذات صلة أو غير مفهومة لصنّاع القرار”، وظلّت “محصورة في دائرة من النقاش الأكاديمي الغامض”. ويُعدّ هذا الانقسام بين النظرية والممارسة مشكلة في الأوقات العادية، وخطرًا في فترات الاضطراب. فالكثير من الأصوات التي تقود النقاش حول السياسة الخارجية في واشنطن تستند ضمنًا إلى هذه النماذج النظرية، ما يؤدي إلى ظهور توصيات استراتيجية متعارضة يصعب مناقشتها أو التوفيق بينها، لأنها تقوم على افتراضاتٍ مختلفة جذريًا حول كيفية عمل النظام الدولي. فإذا كانت افتراضات الواقعيين حول القوة والأمن صحيحة، فعلى الولايات المتحدة أن تستعد لعقودٍ من منافسة القوى الكبرى. أما إذا كانت قناعات الليبراليين حول عالمية الرغبات الإنسانية دقيقة، فيجب على صنّاع القرار الأميركيين العمل على إعادة بناء النظام الليبرالي وتعزيزه. أما إذا كانت افتراضات البنائيين هي الأقرب للواقع، فإن أي استراتيجية كبرى أميركية ينبغي أن تظل متجذّرة في القيم والمعايير المشروعة.
وللتغلب على هذا الارتباك، يحتاج صانعو السياسات في واشنطن إلى تخصيص وقتٍ أكبر — لا أقل — لمناقشة الأسس الفكرية التي تقوم عليها توصياتهم الاستراتيجية. فمن غير المرجّح أن يقدّم أيّ نموذجٍ واحد الطريق الصحيح للمستقبل، لكن ما لم يعترف الأكاديميون وصنّاع القرار صراحةً بالجذور النظرية التي تنبع منها رؤاهم، فسيستمرّ كلٌّ منهم في الحديث بلغةٍ لا يفهمها الآخر.
وللأسف، سعت إدارة ترامب إلى تفكيك المنتديات القائمة — مثل مكتب التقييم الصافي في وزارة الدفاع الأميركية — التي كانت تُعرّض صنّاع القرار، بحسب وصف وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس، إلى “المفكرين والأفكار الجديدة”. إن إعادة إحياء مثل هذه المنصات التي يلتقي فيها الأكاديميون والاستراتيجيون لمناقشة النماذج المتنافسة أمرٌ حيويّ لصياغة استراتيجية كبرى متماسكة في عصرٍ يتّسم بعدم اليقين.
النماذج الرئيسة
وفقًا لمسحٍ أجراه عام 2007 مشروع التدريس والبحث والسياسة الدولية في جامعة ويليام آند ماري، فإن ما يقارب 70٪ من الخطط الدراسية الأميركية في مساقات “مقدمة في العلاقات الدولية” كانت تتمحور حول النقاش بين النماذج الثلاثة الكبرى: الواقعية، والليبرالية، والبنائية. وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح النموذج (Paradigm) يختلف عن النظرية (Theory)، فالنموذج لا يقدم فرضياتٍ دقيقة بقدر ما يوفر إطارًا فكريًا واسعًا يحدّد من هم الفاعلون المهمون في السياسة الدولية، والعوامل التي ينبغي التركيز عليها لفهم كيفية عمل الجغرافيا السياسية، وما إذا كانت التفاعلات السياسية تميل إلى الانسجام أم إلى الصراع.
يدّعي الواقعيون أن رؤيتهم للعالم قديمة الجذور، تعود إلى كتابات ثيوسيديدس وصن تزو وميكافيلّي. وبعد الحرب العالمية الثانية، هيمنت الواقعية على الحقل الأكاديمي للعلاقات الدولية. وببساطة، يرى الواقعيون أن النظام الدولي يقوم على الفوضى: فجميع الدول ذات سيادة، لكن لا توجد سلطة سيادية فوقها. وهذا يعني أن الدول تعيش في عالمٍ يسوده الشك وعدم الثقة في نوايا الآخرين، ولا سبيل أمامها سوى تعظيم قوتها لضمان أمنها.
ومن وجهة نظرهم، فإن النظام العالمي الذي يبدو في طور التشكّل اليوم ليس جديدًا، بل عودة إلى قاعدةٍ مألوفةٍ ومأساوية. فالعقود القليلة الماضية بدت مستقرة فقط لأن القوة الأميركية كانت بلا منافس. وحتى في الوقت الذي كانت واشنطن فيه تبني المؤسسات وتروّج للتجارة الحرة وتفرض رؤيتها الليبرالية في التسعينيات، كان أفول هذا النظام يلوح في الأفق مع توسّع القوة الاقتصادية للصين. وبالفعل، يوبّخ الواقعيون مثل جون ميرشايمر القادة الأميركيين لأنهم ظنوا خلاف ذلك. ومع أن روسيا لا تضاهي الصين اقتصاديًا، إلا أنها أثبتت استعدادها المتزايد لتحدي الطموحات الأميركية. وكقوةٍ مهيمنةٍ آخذةٍ في التراجع، يرى الواقعيون أن على الولايات المتحدة أن تعترف بأنها ستواجه صراعاتٍ خطيرة مع قوى كبرى أخرى. ورغم أن الأسلحة النووية خفّضت احتمال اندلاع حربٍ كبرى مباشرة، فإن عدوان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُظهر أنها غير كافيةٍ لمنع التصعيد.
أما الليبرالية، فهي الأخرى تستند إلى إرثٍ فكريٍ عريقٍ يمتد إلى آدم سميث وجون لوك وإيمانويل كانط وغيرهم. ويؤمن الليبراليون بأنه رغم أن القوة الأميركية كانت أساسية في بناء النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، فإن هذا النظام وفّر منافع عامة غير مسبوقة على مستوى العالم؛ إذ أسّس لتجارةٍ حرةٍ مزدهرة، ومهّد لانتشار الديمقراطية، وأسهم في قيام عالمٍ أكثر سلمًا وتعاونًا. وعلى خلاف الواقعيين، يعتقد الليبراليون أن الديمقراطيات أكثر موثوقيةً من الأنظمة الاستبدادية في الساحة الدولية. ومن أبرز الملاحظات الليبرالية أن الديمقراطيات لا تخوض الحروب ضد بعضها، ويرجعون هذا الميل السلمي النسبي إلى مجموعة من الآليات الكابحة داخل المجتمعات الديمقراطية، مثل تأثير الرأي العام على القادة، وحرية الصحافة، وعمليات صنع القرار العقلانية. كما يؤمنون بأن فوائد التجارة المفتوحة تفوق منطق الاستيلاء على ثروات الدول الأخرى بالقوة، وأن المؤسسات الدولية تمنح القوى الكبرى فوائد تفوق ما تقيّد به من التزامات.
أما البنائية، فهي نموذج أحدث نسبيًا مقارنةً بالواقعية والليبرالية، لكنها أيضًا تستند إلى جذورٍ فكريةٍ ممتدة عبر قرون. ويقوم جوهرها على أن السياسة العالمية ليست مادية فقط، بل فكرية أيضًا، وأن العلاقات بين الدول تتأثر بالمعايير والقيم بقدر ما تتأثر بالقوة الاقتصادية أو العسكرية. وخلال المئة عام الماضية، يشير البنائيون إلى أن الدول باتت تتقاسم مجموعةً من المعايير المشتركة التي تحدد ما يُعد سلوكًا مشروعًا في النظام الدولي. فالحرب، التي كانت تُعتبر في السابق أداةً طبيعية للسياسة، أصبحت تُعد غير قانونية إلا في حالة الدفاع عن النفس، وأصبح من المتوقع من القادة أن يعترفوا بحقوق الإنسان الأساسية لمواطنيهم، وإذا لم يفعلوا، فإن المجتمع الدولي يستطيع محاسبتهم وفقًا لتلك المعايير التي باتت تتفوّق على مبدأ السيادة التقليدي.
يدّعي الواقعيون أن رؤيتهم للعالم قديمة الجذور، تعود إلى كتابات ثيوسيديدس وصن تزو وميكافيلّي. وبعد الحرب العالمية الثانية، هيمنت الواقعية على الحقل الأكاديمي للعلاقات الدولية. وببساطة، يرى الواقعيون أن النظام الدولي يقوم على الفوضى: فجميع الدول ذات سيادة، لكن لا توجد سلطة سيادية فوقها. وهذا يعني أن الدول تعيش في عالمٍ يسوده الشك وعدم الثقة في نوايا الآخرين، ولا سبيل أمامها سوى تعظيم قوتها لضمان أمنها.
ومن وجهة نظرهم، فإن النظام العالمي الذي يبدو في طور التشكّل اليوم ليس جديدًا، بل عودة إلى قاعدةٍ مألوفةٍ ومأساوية. فالعقود القليلة الماضية بدت مستقرة فقط لأن القوة الأميركية كانت بلا منافس. وحتى في الوقت الذي كانت واشنطن فيه تبني المؤسسات وتروّج للتجارة الحرة وتفرض رؤيتها الليبرالية في التسعينيات، كان أفول هذا النظام يلوح في الأفق مع توسّع القوة الاقتصادية للصين. وبالفعل، يوبّخ الواقعيون مثل جون ميرشايمر القادة الأميركيين لأنهم ظنوا خلاف ذلك. ومع أن روسيا لا تضاهي الصين اقتصاديًا، إلا أنها أثبتت استعدادها المتزايد لتحدي الطموحات الأميركية. وكقوةٍ مهيمنةٍ آخذةٍ في التراجع، يرى الواقعيون أن على الولايات المتحدة أن تعترف بأنها ستواجه صراعاتٍ خطيرة مع قوى كبرى أخرى. ورغم أن الأسلحة النووية خفّضت احتمال اندلاع حربٍ كبرى مباشرة، فإن عدوان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُظهر أنها غير كافيةٍ لمنع التصعيد.
أما الليبرالية، فهي الأخرى تستند إلى إرثٍ فكريٍ عريقٍ يمتد إلى آدم سميث وجون لوك وإيمانويل كانط وغيرهم. ويؤمن الليبراليون بأنه رغم أن القوة الأميركية كانت أساسية في بناء النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، فإن هذا النظام وفّر منافع عامة غير مسبوقة على مستوى العالم؛ إذ أسّس لتجارةٍ حرةٍ مزدهرة، ومهّد لانتشار الديمقراطية، وأسهم في قيام عالمٍ أكثر سلمًا وتعاونًا. وعلى خلاف الواقعيين، يعتقد الليبراليون أن الديمقراطيات أكثر موثوقيةً من الأنظمة الاستبدادية في الساحة الدولية. ومن أبرز الملاحظات الليبرالية أن الديمقراطيات لا تخوض الحروب ضد بعضها، ويرجعون هذا الميل السلمي النسبي إلى مجموعة من الآليات الكابحة داخل المجتمعات الديمقراطية، مثل تأثير الرأي العام على القادة، وحرية الصحافة، وعمليات صنع القرار العقلانية. كما يؤمنون بأن فوائد التجارة المفتوحة تفوق منطق الاستيلاء على ثروات الدول الأخرى بالقوة، وأن المؤسسات الدولية تمنح القوى الكبرى فوائد تفوق ما تقيّد به من التزامات.
أما البنائية، فهي نموذج أحدث نسبيًا مقارنةً بالواقعية والليبرالية، لكنها أيضًا تستند إلى جذورٍ فكريةٍ ممتدة عبر قرون. ويقوم جوهرها على أن السياسة العالمية ليست مادية فقط، بل فكرية أيضًا، وأن العلاقات بين الدول تتأثر بالمعايير والقيم بقدر ما تتأثر بالقوة الاقتصادية أو العسكرية. وخلال المئة عام الماضية، يشير البنائيون إلى أن الدول باتت تتقاسم مجموعةً من المعايير المشتركة التي تحدد ما يُعد سلوكًا مشروعًا في النظام الدولي. فالحرب، التي كانت تُعتبر في السابق أداةً طبيعية للسياسة، أصبحت تُعد غير قانونية إلا في حالة الدفاع عن النفس، وأصبح من المتوقع من القادة أن يعترفوا بحقوق الإنسان الأساسية لمواطنيهم، وإذا لم يفعلوا، فإن المجتمع الدولي يستطيع محاسبتهم وفقًا لتلك المعايير التي باتت تتفوّق على مبدأ السيادة التقليدي.
التركيز الثابت
كتب الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز قولًا شهيرًا مفاده أن “الرجال العمليين الذين يعتقدون أنهم متحررون تمامًا من التأثيرات الفكرية، هم في الواقع عبيد لمفكرين بائدين.” وينطبق هذا تمامًا على السياسيين الأميركيين المعاصرين، حتى لو لم يعتبروا أنفسهم تابعين لأي نموذج من نماذج العلاقات الدولية. ومع ذلك، لا تمارس جميع النماذج التأثير نفسه في السياسة الخارجية الأميركية. فبالرغم من أن الواقعيين يهيمنون تقليديًا على النقاشات الأكاديمية، فإن تأثيرهم داخل دوائر صنع القرار ظل محدودًا، وهو ما يعزونه إلى نفورٍ أميركيٍ تاريخي من سياسات القوة. ومع ذلك، فإن شخصيات مؤثرة في السياسة الخارجية مثل جورج كينان وهنري كيسنجر وجيمس بيكر كانوا جميعًا من الواقعيين.
أما الليبراليون، فقد أصبح لهم الحضور الأبرز في العقود الأخيرة. فمنذ التسعينيات، هيمنت على واشنطن تسوية حزبية مشتركة تؤكد أن التجارة الحرة، والتعددية، ونشر الديمقراطية يجب أن تكون المبادئ الموجِّهة للسياسة الخارجية الأميركية. كما كان لـ البنائية نصيبها من التأثير الواضح؛ فالمثاليون المعلَنون مثل سامانثا باور، والدعاة المحافظون الجدد مثل روبرت كاغان، اشتركوا في الإيمان بأن القيم والمعايير الأخلاقية ينبغي أن تشكّل أساس الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة.
توجّه هذه الالتزامات النظرية طريقة تفسير النخب السياسية لسلوك الدول الأخرى، والاستجابات الاستراتيجية التي يقترحونها. يظهر ذلك جليًا في الجدل الدائر في واشنطن حول الاستراتيجية الأميركية تجاه روسيا وأوكرانيا، وهو جدل تغذّيه نماذج فكرية مختلفة وغير معلنة، ما يجعله أكثر فوضوية وأقل إنتاجية مما ينبغي. فوفقًا للذين يتبنّون الافتراضات الواقعية، فإن سبب الصراع بين البلدين يكمن في توسّع حلف الناتو شرقًا، الذي هدد الأمن الروسي وأدّى بشكل متوقّع إلى العدوان الروسي. أما من ينظرون إلى الغزو الروسي لأوكرانيا من منظورٍ ليبرالي، فيرون أنه عمل عدواني صريح لا علاقة له بالدفاع عن النفس، بل نتج عن خللٍ بنيوي في النظام الاستبدادي الروسي، وأن العلاج يكمن في تعزيز موارد الناتو، بما في ذلك دعوة أوكرانيا للانضمام إليه.
في المقابل، يرى صانعو القرار ذوو الميول البنائية أن الحرب في أوكرانيا تقوّض المعايير الأساسية التي تحفظ تماسك المجتمع الدولي. وكما قالت آن أبلباوم في أواخر عام 2024، فإن بوتين “يريد أن يُظهر لشعبه أن الطموحات الديمقراطية لأوكرانيا ميؤوس منها”، وأنه يسعى لإثبات أن مجموعة القوانين والمعايير الدولية — بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف — لم تعد ذات قيمة.” وإن السماح لروسيا بتغيير حدود السلوك المشروع ستكون له عواقب خطيرة، لا على أوكرانيا وأوروبا فحسب، بل لأنه سيفتح الباب أمام قوى أخرى — خصوصًا الصين — لخوض صراعاتٍ ومنافساتٍ بلا قيود.
أما الليبراليون، فقد أصبح لهم الحضور الأبرز في العقود الأخيرة. فمنذ التسعينيات، هيمنت على واشنطن تسوية حزبية مشتركة تؤكد أن التجارة الحرة، والتعددية، ونشر الديمقراطية يجب أن تكون المبادئ الموجِّهة للسياسة الخارجية الأميركية. كما كان لـ البنائية نصيبها من التأثير الواضح؛ فالمثاليون المعلَنون مثل سامانثا باور، والدعاة المحافظون الجدد مثل روبرت كاغان، اشتركوا في الإيمان بأن القيم والمعايير الأخلاقية ينبغي أن تشكّل أساس الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة.
توجّه هذه الالتزامات النظرية طريقة تفسير النخب السياسية لسلوك الدول الأخرى، والاستجابات الاستراتيجية التي يقترحونها. يظهر ذلك جليًا في الجدل الدائر في واشنطن حول الاستراتيجية الأميركية تجاه روسيا وأوكرانيا، وهو جدل تغذّيه نماذج فكرية مختلفة وغير معلنة، ما يجعله أكثر فوضوية وأقل إنتاجية مما ينبغي. فوفقًا للذين يتبنّون الافتراضات الواقعية، فإن سبب الصراع بين البلدين يكمن في توسّع حلف الناتو شرقًا، الذي هدد الأمن الروسي وأدّى بشكل متوقّع إلى العدوان الروسي. أما من ينظرون إلى الغزو الروسي لأوكرانيا من منظورٍ ليبرالي، فيرون أنه عمل عدواني صريح لا علاقة له بالدفاع عن النفس، بل نتج عن خللٍ بنيوي في النظام الاستبدادي الروسي، وأن العلاج يكمن في تعزيز موارد الناتو، بما في ذلك دعوة أوكرانيا للانضمام إليه.
في المقابل، يرى صانعو القرار ذوو الميول البنائية أن الحرب في أوكرانيا تقوّض المعايير الأساسية التي تحفظ تماسك المجتمع الدولي. وكما قالت آن أبلباوم في أواخر عام 2024، فإن بوتين “يريد أن يُظهر لشعبه أن الطموحات الديمقراطية لأوكرانيا ميؤوس منها”، وأنه يسعى لإثبات أن مجموعة القوانين والمعايير الدولية — بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف — لم تعد ذات قيمة.” وإن السماح لروسيا بتغيير حدود السلوك المشروع ستكون له عواقب خطيرة، لا على أوكرانيا وأوروبا فحسب، بل لأنه سيفتح الباب أمام قوى أخرى — خصوصًا الصين — لخوض صراعاتٍ ومنافساتٍ بلا قيود.
كاميرات الثقب (العدسة المحدودة)
توفّر النماذج النظرية وسيلة لتفسير الماضي والحاضر، ولرؤية المستقبل وسط الفوضى، لكنها قد تقيّد الخيال الاستراتيجي، خصوصًا إذا كان صنّاع القرار غير مدركين للرؤية الفكرية التي توجّه تفكيرهم. بطبيعة الحال، لا تنسجم وجهات نظر القادة دائمًا مع قوالبٍ نظريةٍ محددة، لكن إدراك الفرد للعدسة التي يستخدمها — ومعرفة متى ينبغي تركها جانبًا — يجعل التفكير السياسي أكثر مرونة وواقعية.
فعلى سبيل المثال، رغم اختلافاتها الكبيرة، فإن النماذج السائدة في العلاقات الدولية تتعامل جميعها مع الدول ذات السيادة بوصفها الفاعل الرئيس في التاريخ، غير أن الأفراد هم غالبًا من يقودون التحولات العالمية. ففي عصرٍ تتزايد فيه النزعة الشخصانية، أصبحت سمات القادة الفردية ومزاجهم وانفعالاتهم ذات تأثيرٍ أكبر من أي وقتٍ مضى، بحيث يمكن لتبدّل الزعيم أن يؤدي إلى تغيّرٍ جذري في السياسات. لم يكن الواقعيون أو الليبراليون أو البنائيون مستعدين لتوقّع التحوّلات الكبرى التي أحدثها صعود ميخائيل غورباتشوف إلى قيادة الاتحاد السوفييتي عام 1985، كما لم تستطع أيٌّ من هذه النماذج السائدة أن تتنبأ بأن مجموعة صغيرة من المتطرفين الدينيين ستشنّ هجومًا مدمّرًا على الأراضي الأميركية.
ويظهر العمى ذاته في تحليلات السياسة المعاصرة التي يقودها “الرجل القوي”. فمحاولات إدخال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قوالبٍ فكرية جاهزة — خصوصًا وصفه بأنه “واقعي” — باءت بالفشل. إذ يبدو مفهومه عن المصلحة القومية الأميركية متناقضًا وغالبًا خاضعًا لمصالحه الشخصية. فهو يرفع وتيرة المنافسة مع الصين في الوقت الذي يُبدي فيه لامبالاة تجاه بناء التحالفات اللازمة لخوض تلك المنافسة، ويزيد الرسوم الجمركية لإعادة التصنيع إلى الداخل الأميركي بينما يفرض قيودًا على الهجرة تقلّص حجم القوة العاملة. وبالمثل، فإن رفض فلاديمير بوتين للمؤسسات الليبرالية والمعايير المناهضة للعدوان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتصوّره الخاص لتاريخ روسيا بوصفها قوةً ضحية. وإذا أُزيل هؤلاء القادة من المعادلة، يصبح من الصعب توقّع مسارات بلدانهم.
لو كان القادة والمحللون أكثر وضوحًا بشأن الأطر النظرية التي يستندون إليها، لأمكنهم إدراك الثغرات المفهومية التي يعانونها. لكن بدلاً من ذلك، كثيرًا ما يحاولون تكييف الوقائع داخل النماذج القائمة بدلًا من الاعتراف بحدودها. فعندما يُلقي بوتين خطابًا يبرر فيه غزوه لأوكرانيا بالخوف من القوة الأميركية وبدوافع أمنية، يرى الواقعيون في ذلك دليلًا على صحة نموذجهم، في حين يتجاهل الليبراليون والبنائيون أن الزعيم الروسي قد يرى في منظمات الدعوة الديمقراطية الغربية تهديدًا مباشرًا لبلاده.
وأخيرًا، عندما تُهمل النماذج النظرية أو تُستخدم من دون وعي، يمكن أن تتحول من أدوات تفسير إلى نبوءاتٍ تحقق ذاتها، فتُسهم في تشكيل الواقع الجيوسياسي بدلًا من مجرد وصفه. ففي عام 1998، زار فريق من حلف الناتو جامعة ييل لتبرير سياسة إدارة كلينتون الهادفة إلى توسيع الحلف شرقًا. وأثناء جلسة الأسئلة، سأل الباحث في العلاقات الدولية بروس روسِت عمّا إذا كان هذا التوسّع قد يُهدد روسيا عن غير قصد ويعرقل جهود الرئيس الروسي بوريس يلتسن للإصلاح الديمقراطي. وكما يروي المؤرخ جون لويس غاديس، ساد الصمت لوهلة، قبل أن يجيب أحد الحاضرين بدهشة صادقة: “يا إلهي! لم نفكر في ذلك من قبل!”
فعلى سبيل المثال، رغم اختلافاتها الكبيرة، فإن النماذج السائدة في العلاقات الدولية تتعامل جميعها مع الدول ذات السيادة بوصفها الفاعل الرئيس في التاريخ، غير أن الأفراد هم غالبًا من يقودون التحولات العالمية. ففي عصرٍ تتزايد فيه النزعة الشخصانية، أصبحت سمات القادة الفردية ومزاجهم وانفعالاتهم ذات تأثيرٍ أكبر من أي وقتٍ مضى، بحيث يمكن لتبدّل الزعيم أن يؤدي إلى تغيّرٍ جذري في السياسات. لم يكن الواقعيون أو الليبراليون أو البنائيون مستعدين لتوقّع التحوّلات الكبرى التي أحدثها صعود ميخائيل غورباتشوف إلى قيادة الاتحاد السوفييتي عام 1985، كما لم تستطع أيٌّ من هذه النماذج السائدة أن تتنبأ بأن مجموعة صغيرة من المتطرفين الدينيين ستشنّ هجومًا مدمّرًا على الأراضي الأميركية.
ويظهر العمى ذاته في تحليلات السياسة المعاصرة التي يقودها “الرجل القوي”. فمحاولات إدخال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قوالبٍ فكرية جاهزة — خصوصًا وصفه بأنه “واقعي” — باءت بالفشل. إذ يبدو مفهومه عن المصلحة القومية الأميركية متناقضًا وغالبًا خاضعًا لمصالحه الشخصية. فهو يرفع وتيرة المنافسة مع الصين في الوقت الذي يُبدي فيه لامبالاة تجاه بناء التحالفات اللازمة لخوض تلك المنافسة، ويزيد الرسوم الجمركية لإعادة التصنيع إلى الداخل الأميركي بينما يفرض قيودًا على الهجرة تقلّص حجم القوة العاملة. وبالمثل، فإن رفض فلاديمير بوتين للمؤسسات الليبرالية والمعايير المناهضة للعدوان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتصوّره الخاص لتاريخ روسيا بوصفها قوةً ضحية. وإذا أُزيل هؤلاء القادة من المعادلة، يصبح من الصعب توقّع مسارات بلدانهم.
لو كان القادة والمحللون أكثر وضوحًا بشأن الأطر النظرية التي يستندون إليها، لأمكنهم إدراك الثغرات المفهومية التي يعانونها. لكن بدلاً من ذلك، كثيرًا ما يحاولون تكييف الوقائع داخل النماذج القائمة بدلًا من الاعتراف بحدودها. فعندما يُلقي بوتين خطابًا يبرر فيه غزوه لأوكرانيا بالخوف من القوة الأميركية وبدوافع أمنية، يرى الواقعيون في ذلك دليلًا على صحة نموذجهم، في حين يتجاهل الليبراليون والبنائيون أن الزعيم الروسي قد يرى في منظمات الدعوة الديمقراطية الغربية تهديدًا مباشرًا لبلاده.
وأخيرًا، عندما تُهمل النماذج النظرية أو تُستخدم من دون وعي، يمكن أن تتحول من أدوات تفسير إلى نبوءاتٍ تحقق ذاتها، فتُسهم في تشكيل الواقع الجيوسياسي بدلًا من مجرد وصفه. ففي عام 1998، زار فريق من حلف الناتو جامعة ييل لتبرير سياسة إدارة كلينتون الهادفة إلى توسيع الحلف شرقًا. وأثناء جلسة الأسئلة، سأل الباحث في العلاقات الدولية بروس روسِت عمّا إذا كان هذا التوسّع قد يُهدد روسيا عن غير قصد ويعرقل جهود الرئيس الروسي بوريس يلتسن للإصلاح الديمقراطي. وكما يروي المؤرخ جون لويس غاديس، ساد الصمت لوهلة، قبل أن يجيب أحد الحاضرين بدهشة صادقة: “يا إلهي! لم نفكر في ذلك من قبل!”
ردم الفجوة
لا يمكن القضاء على التفكير القائم على النماذج النظرية — ولا ينبغي ذلك أصلًا — لكن على الاستراتيجيين في واشنطن أن يفكروا بطريقةٍ أقرب إلى العلماء الاجتماعيين. ويعني هذا ليس فقط إبراز افتراضاتهم النظرية بوضوح، بل أيضًا محاولة تفسير سبب خطأ الرؤى الأخرى. فعلى الواقعيين العاملين في إدارة ترامب أن يوضّحوا لماذا لم يعد دعم المؤسسات الأمنية المتعددة الأطراف ونشر الديمقراطية من أولويات السياسة الخارجية الأميركية. وفي المقابل، يجب على الليبراليين والبنائيين أن يبيّنوا لماذا ستفشل الاستراتيجية الأميركية إذا تخلّت عن التزاماتها المؤسسية والمعيارية، بدلًا من الاكتفاء بالافتراض أنها ستفشل.
يتطلب التحليل المنهجي السليم من صنّاع القرار أن يطرحوا سؤالًا بسيطًا: ما الذي يمكن أن يثبت خطأ هذه الاستراتيجية؟ فالمحللون الذين تبنى حججهم على نماذج غير معترف بها قد يتجاهلون حقائق مهمة أو يحرّفون الواقع. إن تحديد الأحداث التي يمكن أن تنقض توقعاتهم مسبقًا يساعد على تصحيح هذا الانحياز. فإذا عقدت الصين والولايات المتحدة اتفاقًا تجاريًا، وإذا أبدت إدارة ترامب استعدادها للسماح لقوى أخرى بامتلاك “مجالات نفوذ”، فإن ذلك سيكون مناقضًا للواقعية. أما إذا استمرّ تراجع الديمقراطيات وازداد الحمائية الاقتصادية، فعلى الليبراليين إعادة تقييم افتراضهم بوجود منافع عامة عالمية مشتركة.
مثل هذه النقاشات تتطلّب منتديات تجمع بين الأكاديميين وصنّاع القرار. فكما أشار عالم السياسة ستيفن والت، يميل صانعو القرار — حين يُتركون لأنفسهم — إلى التركيز المفرط على “مشكلات اليوم”، بينما يغرق الأكاديميون، من دون تواصل مع الواقع العملي، في جدالات نظرية مجردة داخل التخصص الواحد. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، عمل مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي على جمع الأكاديميين وضباط الاستخبارات في حواراتٍ مشتركة نُشرت نتائجها في تقارير الاتجاهات العالمية (Global Trends)، كما تميز مكتب التقييم الصافي في وزارة الدفاع بتعاونه مع الباحثين حول قضايا الدفاع والأمن القومي. لم تكن هذه المؤسسات تهدف صراحةً إلى مناقشة نماذج العلاقات الدولية، لكنها من خلال جمعها طيفًا واسعًا من المفكرين في واشنطن، ساهمت في نقاشات حيوية حول أسس السياسة الخارجية.
غير أن إدارة ترامب عملت بشدة على إغلاق هذه المراكز — في الوقت الذي تحتاج فيه واشنطن إليها أكثر من أي وقت مضى. فقد أُغلق مكتب التقييم الصافي في مارس، وفي سبتمبر أعلنت مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد عن وقف تقارير الاتجاهات العالمية. وجاءت هذه الخطوات في مناخٍ من العداء المتزايد تجاه التعليم العالي والنظرية عمومًا.
إن إلغاء هذه المؤسسات وفرص النقاش لن يُخرج النظرية من السياسة، بل سيجعل دورها أكثر غموضًا. وبدلًا من أن تكون النماذج النظرية منبعًا للرؤية الاستراتيجية، ستتحول إلى سببٍ جديدٍ للعمى في السياسة الخارجية.
يتطلب التحليل المنهجي السليم من صنّاع القرار أن يطرحوا سؤالًا بسيطًا: ما الذي يمكن أن يثبت خطأ هذه الاستراتيجية؟ فالمحللون الذين تبنى حججهم على نماذج غير معترف بها قد يتجاهلون حقائق مهمة أو يحرّفون الواقع. إن تحديد الأحداث التي يمكن أن تنقض توقعاتهم مسبقًا يساعد على تصحيح هذا الانحياز. فإذا عقدت الصين والولايات المتحدة اتفاقًا تجاريًا، وإذا أبدت إدارة ترامب استعدادها للسماح لقوى أخرى بامتلاك “مجالات نفوذ”، فإن ذلك سيكون مناقضًا للواقعية. أما إذا استمرّ تراجع الديمقراطيات وازداد الحمائية الاقتصادية، فعلى الليبراليين إعادة تقييم افتراضهم بوجود منافع عامة عالمية مشتركة.
مثل هذه النقاشات تتطلّب منتديات تجمع بين الأكاديميين وصنّاع القرار. فكما أشار عالم السياسة ستيفن والت، يميل صانعو القرار — حين يُتركون لأنفسهم — إلى التركيز المفرط على “مشكلات اليوم”، بينما يغرق الأكاديميون، من دون تواصل مع الواقع العملي، في جدالات نظرية مجردة داخل التخصص الواحد. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، عمل مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي على جمع الأكاديميين وضباط الاستخبارات في حواراتٍ مشتركة نُشرت نتائجها في تقارير الاتجاهات العالمية (Global Trends)، كما تميز مكتب التقييم الصافي في وزارة الدفاع بتعاونه مع الباحثين حول قضايا الدفاع والأمن القومي. لم تكن هذه المؤسسات تهدف صراحةً إلى مناقشة نماذج العلاقات الدولية، لكنها من خلال جمعها طيفًا واسعًا من المفكرين في واشنطن، ساهمت في نقاشات حيوية حول أسس السياسة الخارجية.
غير أن إدارة ترامب عملت بشدة على إغلاق هذه المراكز — في الوقت الذي تحتاج فيه واشنطن إليها أكثر من أي وقت مضى. فقد أُغلق مكتب التقييم الصافي في مارس، وفي سبتمبر أعلنت مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد عن وقف تقارير الاتجاهات العالمية. وجاءت هذه الخطوات في مناخٍ من العداء المتزايد تجاه التعليم العالي والنظرية عمومًا.
إن إلغاء هذه المؤسسات وفرص النقاش لن يُخرج النظرية من السياسة، بل سيجعل دورها أكثر غموضًا. وبدلًا من أن تكون النماذج النظرية منبعًا للرؤية الاستراتيجية، ستتحول إلى سببٍ جديدٍ للعمى في السياسة الخارجية.
