في مقالهما المنشور في مجلة Foreign Policy، يؤكد جريج ليفيسك وكالدر والتون أن العالم يشهد تحولًا جذريًا في مفهوم الاستخبارات مع انفجار البيانات المفتوحة وتطور الذكاء الاصطناعي، ما يجعل من البيانات المفتوحة المصدر (OSINT) حجر الأساس في العمل الاستخباراتي الحديث بدلًا من التركيز الحصري على الأسرار. ويرى الكاتبان أن على الولايات المتحدة الانتقال من نموذج استخباراتي مغلق إلى نموذج مفتوح وسريع ومرن يربط بين القطاعين العام والخاص. في المقابل، تستخدم الصين نموذج “كل المجتمع” في التجسس وجمع البيانات لتعزيز تفوقها التكنولوجي والعسكري، مستهدفة التقنيات الناشئة كالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والهندسة الحيوية. وفي حين تتحرك الحكومة الأميركية ببطء، بدأ القطاع الخاص بتشكيل بنية قوية لمكافحة التجسس. ويخلص المقال إلى أن سباق الاستخبارات العالمي قد بدأ، والفائز لن يكون من يحتكر الأسرار، بل من يسيطر على البيانات ويستغل الذكاء الاصطناعي ويُحسن التعاون.
The Future of Intelligence Is Open
العالم يقف عند نقطة تحوّل حاسمة في مجال الاستخبارات والأمن القومي. إن الانفجار الهائل في البيانات المتاحة علنًا، إلى جانب الذكاء الاصطناعي القادر على معالجتها على نطاق واسع، لا يضيف فقط إلى العمل الاستخباراتي، بل يعيد تعريفه من الأساس. لم تعد الاستخبارات تدور حول الأسرار فقط، بل أصبحت تدور حول استخدام البيانات للرؤية بوضوح، واتخاذ القرار بسرعة، والتحرك أولًا في سباق تكنولوجي عالمي له تداعيات جيوسياسية عميقة.
اليوم ليس كما كان عام 1947، عام تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، حين كان على رجال الاستخبارات أن يكونوا “صيادين” للعثور على الأسرار المخفية. أما الآن، فقد أصبحت البيانات جزءًا من حياتنا اليومية، ويمكن جمع المعلومات الاستخباراتية على نطاق عالمي وواسع داخل بيئة رقمية. لقد تغيّرت قواعد اللعبة من تحت أقدامنا. فنحن نعيش في وسط تنافس متجدد بين القوى الكبرى، يتركز على الفوز في سباق السيطرة على تقنيات المستقبل — مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وعلم الأحياء الاصطناعي. وسيؤدي التفوق في هذه التقنيات إلى تشكيل النظام الجيوسياسي للقرن المقبل.
يُظهر التاريخ أن التحولات الكبرى في التكنولوجيا والجغرافيا السياسية تتطلب تحوّلًا مماثلًا في نهج مجتمع الاستخبارات الأميركي: من نموذج مغلق وسري إلى نموذج قائم على الانفتاح والسرعة والمعرفة. وفي قلب هذا التحول يقف مفهوم “الاستخبارات مفتوحة المصدر” (OSINT). وبفضل الذكاء الاصطناعي، لم تعد OSINT مجرد مكمل للاستخبارات التقليدية، بل أصبحت أساسها.
أولًا، يجب التعامل مع OSINT كأصل وطني، خاصة مع تحوّل البيانات إلى عامل إنتاج أساسي إلى جانب الأرض والعمل ورأس المال في عصر الذكاء الاصطناعي. تطبيقاتها تمتد عبر الصناعة والأوساط الأكاديمية والحكومة. وبما أن قوتها تكمن في سهولة الوصول إليها وشفافيتها، فيجب تطويرها خارج البيئات المصنفة والسريّة. ولهذا تُسمى “مفتوحة”.
ومع ذلك، ما زال كثيرون داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي ينظرون إلى OSINT على أنها أمر ثانوي. هذا تفكير قديم. ففي ظل إنتاج الغالبية العظمى من بيانات العالم في بيئات رقمية مفتوحة، يجب أن تكون OSINT نقطة الانطلاق للتحليل. لم يعد السؤال “ما الأسرار التي يمكننا كشفها؟” بل “ماذا يكشف المجال المفتوح بالفعل؟”.
اقترح البعض إنشاء وكالة استخبارات أميركية مخصصة لمصادر المعلومات المفتوحة. لكن هذا يغفل حقيقة أساسية: أن العمل الأكثر قيمة في هذا المجال يُنفذ خارج الحكومة. لكي تحقق الولايات المتحدة الإمكانات الكاملة لـ OSINT، يجب أن تتعامل معها كأصل وطني، لا مجرد قدرة بيروقراطية. وهذا يعني بناء جسور بين القطاعين العام والخاص، لا مزيد من الجدران داخل الدولة. فالقطاع الخاص، الذي تقود فيه الشركات الابتكار في مجالات التكنولوجيا الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، هو الأقدر على قيادة مستقبل تطوير أدوات متقدمة لتعزيز قدرات الولايات المتحدة في الاستخبارات ومكافحة التجسس، والعمل كشركاء في إدارة مورد وطني.
كما أن قدرة القطاع الخاص على تقديم معلومات استخباراتية دقيقة وفي الوقت المناسب لم تعد محل شك. فعلى سبيل المثال، كانت شركة الأمن السيبراني Mandiant في عام 2013 أول من اكتشف مجموعة التجسس الصينية APT1. وفي عام 2016، كانت CrowdStrike أول من حدّد مجموعة القرصنة الروسية Fancy Bear. وقد قدّر أحد كبار مسؤولي الاستخبارات الأميركية المتقاعدين، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، أن نحو 95٪ من عمله السابق كان يمكن الحصول عليه عبر OSINT.
وعلى نحو أحدث، تمكنت فرق صغيرة وذات كفاءة عالية — مثل تلك العاملة في شركة Dow Chemical — من استخدام بيانات مفتوحة وتجارية للتنبؤ بدقة بالغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022، قبل العديد من الدول المعنية مباشرة. ومنذ ذلك الحين، زادت قدراتهم واستثماراتهم في هذه الأدوات في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة.
كما أن هناك ثورة موازية تحدث في مجال مكافحة التجسس، مدفوعة هي الأخرى بالذكاء الاصطناعي، وقد بدأت للتو. وكما هو الحال مع الاستخبارات، سيكون القطاع الخاص وليس الحكومات هو من يقود صناعة مكافحة تجسس ملائمة لعصر المعلومات.
لقد بُني مجتمع الاستخبارات الأميركي لمواجهة الاتحاد السوفييتي — في عالم الأسرار لا أجهزة الاستشعار. ورغم تطوره، لا تزال هياكله وثقافته راسخة في حقبة أخرى. تقليديًا، كانت الاستخبارات تعني جمع معلومات سرية ثم تحليلها وإيصالها لصناع القرار. وفي القرن الماضي وحتى بدايات هذا القرن، كانت هذه العملية تتطلب موارد حكومية ضخمة لاكتشاف الأسرار التي يخفيها الخصوم. وبسبب طبيعتها السرية، كانت تتطلب وسائل جمع سرية أيضًا.
أما اليوم، فإن البيئة الرقمية الجديدة تتيح الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات التي يمكن، بأيدي علماء بيانات مهرة، تحليلها بذكاء للكشف عن أنماط ورؤى غير بديهية. هذا ما برهنت عليه منظمة Bellingcat الاستقصائية بمهارة، من خلال كشف أنشطة روسيا السرية، وهي مهام كانت في عالم ما قبل الرقمنة تستنزف أجهزة الاستخبارات الغربية لسنوات.
بدلًا من أن تظل الاستخبارات مرتبطة فقط بالأسرار، يجب اليوم النظر إليها ضمن إطار وطني أشمل: فهي تتعلق بتوفير مزايا حاسمة لصانعي القرار. الاستخبارات الآن تدور حول البيانات: من يمتلكها، ومن يسيطر عليها، ومن يستطيع معالجتها بأكبر قدر من الكفاءة باستخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي لاستخلاص رؤى تمكّنه من دقة التحرك. من يحقق هذه القدرة سيكون سيد هذا القرن.
وكما تتغير نظرتنا إلى الاستخبارات، تتغير كذلك طبيعة مكافحة التجسس. فمكافحة التجسس يمكن فهمها بأفضل شكل على أنها مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى الدفاع ضد الهجمات الاستخباراتية الأجنبية. أحد عناصرها هو مكافحة التجسس بمعناه التقليدي — أي القبض على الجواسيس — لكنها أوسع من ذلك بكثير، إذ تشمل التصدي لحملات التضليل، ومكافحة الإرهاب، وأعمال التخريب. وتغطي مكافحة التجسس كامل السطح المعرّض للتهديد، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، لأن أي نقطة يمكن أن تكون عرضة لهجوم من جهة معادية.
في القرن الماضي، كانت مكافحة التجسس مجالًا حكوميًا بحتًا — دولة ضد دولة. أما اليوم، فلم تعد عمليات التجسس تُدار بهذه الطريقة. الشركات تقف الآن جنبًا إلى جنب مع الحكومات في الخطوط الأمامية في لعبة التجسس المدعومة بالتكنولوجيا.
لفهم طبيعة مكافحة التجسس التقليدية، يمكن تخيل العمل الروتيني الدقيق لضباط الاستخبارات البريطانيين كما وصفهم جون لو كاريه في رواياته. كان ذلك يتضمن تدقيق الملفات، ومطابقة المعلومات، وأحيانًا الانغماس في مهام مملة مثل البحث في دليل هاتف أجنبي بشكل عكسي للعثور على اسم معين. كان هناك ضباط حقيقيون يشبهون شخصية “كوني ساكس” في رواياته، ممن يمتلكون معرفة موسوعية بالتجسس السوفييتي.
أما في عالم الاستخبارات الرقمية اليوم، فسيكون “ساكس” بمثابة مساعد ذكاء اصطناعي يتعامل مع تدفقات البيانات في الزمن الحقيقي. لكن التقدم في دمج الذكاء الاصطناعي وقدرات المصادر المفتوحة داخل المؤسسات الاستخباراتية ما زال مقيدًا بالتصنيفات السرية والبيروقراطية والمقاومة الثقافية. فالسرية لا تزال “عملة” هذا العالم.
ولفهم حجم التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في مكافحة التجسس، يجب فهم كيفية نظرة جمهورية الصين الشعبية — التهديد الاستراتيجي الأكبر لواشنطن — للاستخبارات. تستخدم الصين مقاربة “شاملة على مستوى المجتمع” لجمع المعلومات، مستغلة كل الوسائل والموارد والأشخاص المتاحين لسرقة البيانات العسكرية والتجارية والصناعية الغربية، في إطار استراتيجية كبرى أعلنها الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني شي جينبينغ، تهدف إلى التفوق على الولايات المتحدة وقيادة العالم اقتصاديًا وعسكريًا.
ولتحقيق هدف شي المتمثل في “النهضة الوطنية”، تدمج بكين بين القدرات العسكرية والمدنية، ولا تميز تقريبًا بين الأهداف العسكرية والمدنية في الغرب. ومن خلال تشريعات سلطوية متزايدة الصرامة، سمح الحزب الشيوعي رسميًا لأجهزة استخباراته بسرقة الملكية الفكرية من أهداف غربية لا يمكن تطويرها محليًا. وتشمل أهداف الصين التقنيات الناشئة التي ستشكل مستقبل البشرية هذا القرن، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والهندسة الحيوية.
لا تقتصر الصين على سرقة الأسرار فقط، بل تجمع كل أنواع البيانات، سواء السرية أو المتاحة علنًا. وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، إذ سيسمح لها بتحليل الكميات الضخمة من البيانات المسروقة والمجمعة، والتي تخزنها في مراكز بيانات ضخمة داخل البلاد. ويمكن القول إن الحرب التجارية الأميركية–الصينية التي أعيد إطلاقها في أبريل لم تؤدِ إلا إلى زيادة وتيرة سرقة الملكية الفكرية الأميركية من قبل الصين في محاولة لتجاوز القيود التجارية المفروضة عليها.
إن الفصل الغربي بين القطاعين العام والخاص هو نقطة ضعف تستغلها الصين بشكل منهجي. فالحكومة الأميركية وحدها لا تستطيع مواجهة حجم الهجوم الاستخباراتي الصيني المعتمد على نموذج “كل المجتمع”، والذي يشمل تجنيد علماء ومهندسين داخل شركات أميركية لسرقة الملكية الفكرية. ووفقًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، كانت الوكالة في عام 2022 تفتح تحقيقًا جديدًا مرتبطًا بالصين كل 12 ساعة. كما حذّر المدير السابق لـFBI كريستوفر راي من أن الصين سرقت بيانات شخصية وتجارية أميركية تفوق ما سرقته جميع الدول الأخرى مجتمعة.
ورداً على ذلك، بدأت تتشكل صناعة لمكافحة التجسس في القطاع الخاص، إذ تعزز الشركات إجراءاتها الأمنية الداخلية لمواجهة تهديدات الدول. ففي يناير، تحدث مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة Meta، عن عمل فرق مكافحة التجسس في الشركة، موضحًا أنها ترصد استخدام المنصات من قبل جهات خبيثة.
ولا تقتصر هذه الجهود على Meta؛ فهناك وظائف مماثلة في شركات تكنولوجية كبرى مثل Apple وOpenAI وAmazon وMicrosoft وAccenture وCrowdStrike وTwitter/X. جميع شركات التكنولوجيا العملاقة تتبنى هذا النهج.
وكما هو متوقع، فإن الحكومة الأميركية تتحرك بوتيرة أبطأ بكثير. ورغم تحديث وكالة CIA على مر السنين، فإن بنيتها الأساسية لا تزال كما كانت عند تأسيسها تقريبًا عام 1947. ولو أردنا تصميم مجتمع استخبارات يناسب القرن الحادي والعشرين، لاحتفظ بنفس الأهداف العامة، لكنه سيتخذ شكلًا مختلفًا جذريًا.
وفي ظل وتيرة التغيير السريعة والمخاطر الجيوسياسية المتزايدة، ينبغي لواشنطن أن تعزز قدرة صناعة التكنولوجيا على مراقبة التجسس والرد عليه.
لقد بدأ سباق الاستخبارات بالفعل — ولن يفوز به من يحتفظ بالأسرار، بل من يسيطر على البيانات، ويستخدم الذكاء الاصطناعي، ويعتمد على التعاون. هذا ليس مجرد تطور في تقنيات العمل الاستخباراتي، بل هو إعادة تصميم كاملة لطبيعة الاستخبارات ذاتها. ويجب على الولايات المتحدة أن تقود هذا التحول.
اليوم ليس كما كان عام 1947، عام تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، حين كان على رجال الاستخبارات أن يكونوا “صيادين” للعثور على الأسرار المخفية. أما الآن، فقد أصبحت البيانات جزءًا من حياتنا اليومية، ويمكن جمع المعلومات الاستخباراتية على نطاق عالمي وواسع داخل بيئة رقمية. لقد تغيّرت قواعد اللعبة من تحت أقدامنا. فنحن نعيش في وسط تنافس متجدد بين القوى الكبرى، يتركز على الفوز في سباق السيطرة على تقنيات المستقبل — مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وعلم الأحياء الاصطناعي. وسيؤدي التفوق في هذه التقنيات إلى تشكيل النظام الجيوسياسي للقرن المقبل.
يُظهر التاريخ أن التحولات الكبرى في التكنولوجيا والجغرافيا السياسية تتطلب تحوّلًا مماثلًا في نهج مجتمع الاستخبارات الأميركي: من نموذج مغلق وسري إلى نموذج قائم على الانفتاح والسرعة والمعرفة. وفي قلب هذا التحول يقف مفهوم “الاستخبارات مفتوحة المصدر” (OSINT). وبفضل الذكاء الاصطناعي، لم تعد OSINT مجرد مكمل للاستخبارات التقليدية، بل أصبحت أساسها.
أولًا، يجب التعامل مع OSINT كأصل وطني، خاصة مع تحوّل البيانات إلى عامل إنتاج أساسي إلى جانب الأرض والعمل ورأس المال في عصر الذكاء الاصطناعي. تطبيقاتها تمتد عبر الصناعة والأوساط الأكاديمية والحكومة. وبما أن قوتها تكمن في سهولة الوصول إليها وشفافيتها، فيجب تطويرها خارج البيئات المصنفة والسريّة. ولهذا تُسمى “مفتوحة”.
ومع ذلك، ما زال كثيرون داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي ينظرون إلى OSINT على أنها أمر ثانوي. هذا تفكير قديم. ففي ظل إنتاج الغالبية العظمى من بيانات العالم في بيئات رقمية مفتوحة، يجب أن تكون OSINT نقطة الانطلاق للتحليل. لم يعد السؤال “ما الأسرار التي يمكننا كشفها؟” بل “ماذا يكشف المجال المفتوح بالفعل؟”.
اقترح البعض إنشاء وكالة استخبارات أميركية مخصصة لمصادر المعلومات المفتوحة. لكن هذا يغفل حقيقة أساسية: أن العمل الأكثر قيمة في هذا المجال يُنفذ خارج الحكومة. لكي تحقق الولايات المتحدة الإمكانات الكاملة لـ OSINT، يجب أن تتعامل معها كأصل وطني، لا مجرد قدرة بيروقراطية. وهذا يعني بناء جسور بين القطاعين العام والخاص، لا مزيد من الجدران داخل الدولة. فالقطاع الخاص، الذي تقود فيه الشركات الابتكار في مجالات التكنولوجيا الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، هو الأقدر على قيادة مستقبل تطوير أدوات متقدمة لتعزيز قدرات الولايات المتحدة في الاستخبارات ومكافحة التجسس، والعمل كشركاء في إدارة مورد وطني.
كما أن قدرة القطاع الخاص على تقديم معلومات استخباراتية دقيقة وفي الوقت المناسب لم تعد محل شك. فعلى سبيل المثال، كانت شركة الأمن السيبراني Mandiant في عام 2013 أول من اكتشف مجموعة التجسس الصينية APT1. وفي عام 2016، كانت CrowdStrike أول من حدّد مجموعة القرصنة الروسية Fancy Bear. وقد قدّر أحد كبار مسؤولي الاستخبارات الأميركية المتقاعدين، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، أن نحو 95٪ من عمله السابق كان يمكن الحصول عليه عبر OSINT.
وعلى نحو أحدث، تمكنت فرق صغيرة وذات كفاءة عالية — مثل تلك العاملة في شركة Dow Chemical — من استخدام بيانات مفتوحة وتجارية للتنبؤ بدقة بالغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022، قبل العديد من الدول المعنية مباشرة. ومنذ ذلك الحين، زادت قدراتهم واستثماراتهم في هذه الأدوات في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة.
كما أن هناك ثورة موازية تحدث في مجال مكافحة التجسس، مدفوعة هي الأخرى بالذكاء الاصطناعي، وقد بدأت للتو. وكما هو الحال مع الاستخبارات، سيكون القطاع الخاص وليس الحكومات هو من يقود صناعة مكافحة تجسس ملائمة لعصر المعلومات.
لقد بُني مجتمع الاستخبارات الأميركي لمواجهة الاتحاد السوفييتي — في عالم الأسرار لا أجهزة الاستشعار. ورغم تطوره، لا تزال هياكله وثقافته راسخة في حقبة أخرى. تقليديًا، كانت الاستخبارات تعني جمع معلومات سرية ثم تحليلها وإيصالها لصناع القرار. وفي القرن الماضي وحتى بدايات هذا القرن، كانت هذه العملية تتطلب موارد حكومية ضخمة لاكتشاف الأسرار التي يخفيها الخصوم. وبسبب طبيعتها السرية، كانت تتطلب وسائل جمع سرية أيضًا.
أما اليوم، فإن البيئة الرقمية الجديدة تتيح الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات التي يمكن، بأيدي علماء بيانات مهرة، تحليلها بذكاء للكشف عن أنماط ورؤى غير بديهية. هذا ما برهنت عليه منظمة Bellingcat الاستقصائية بمهارة، من خلال كشف أنشطة روسيا السرية، وهي مهام كانت في عالم ما قبل الرقمنة تستنزف أجهزة الاستخبارات الغربية لسنوات.
بدلًا من أن تظل الاستخبارات مرتبطة فقط بالأسرار، يجب اليوم النظر إليها ضمن إطار وطني أشمل: فهي تتعلق بتوفير مزايا حاسمة لصانعي القرار. الاستخبارات الآن تدور حول البيانات: من يمتلكها، ومن يسيطر عليها، ومن يستطيع معالجتها بأكبر قدر من الكفاءة باستخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي لاستخلاص رؤى تمكّنه من دقة التحرك. من يحقق هذه القدرة سيكون سيد هذا القرن.
وكما تتغير نظرتنا إلى الاستخبارات، تتغير كذلك طبيعة مكافحة التجسس. فمكافحة التجسس يمكن فهمها بأفضل شكل على أنها مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى الدفاع ضد الهجمات الاستخباراتية الأجنبية. أحد عناصرها هو مكافحة التجسس بمعناه التقليدي — أي القبض على الجواسيس — لكنها أوسع من ذلك بكثير، إذ تشمل التصدي لحملات التضليل، ومكافحة الإرهاب، وأعمال التخريب. وتغطي مكافحة التجسس كامل السطح المعرّض للتهديد، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، لأن أي نقطة يمكن أن تكون عرضة لهجوم من جهة معادية.
في القرن الماضي، كانت مكافحة التجسس مجالًا حكوميًا بحتًا — دولة ضد دولة. أما اليوم، فلم تعد عمليات التجسس تُدار بهذه الطريقة. الشركات تقف الآن جنبًا إلى جنب مع الحكومات في الخطوط الأمامية في لعبة التجسس المدعومة بالتكنولوجيا.
لفهم طبيعة مكافحة التجسس التقليدية، يمكن تخيل العمل الروتيني الدقيق لضباط الاستخبارات البريطانيين كما وصفهم جون لو كاريه في رواياته. كان ذلك يتضمن تدقيق الملفات، ومطابقة المعلومات، وأحيانًا الانغماس في مهام مملة مثل البحث في دليل هاتف أجنبي بشكل عكسي للعثور على اسم معين. كان هناك ضباط حقيقيون يشبهون شخصية “كوني ساكس” في رواياته، ممن يمتلكون معرفة موسوعية بالتجسس السوفييتي.
أما في عالم الاستخبارات الرقمية اليوم، فسيكون “ساكس” بمثابة مساعد ذكاء اصطناعي يتعامل مع تدفقات البيانات في الزمن الحقيقي. لكن التقدم في دمج الذكاء الاصطناعي وقدرات المصادر المفتوحة داخل المؤسسات الاستخباراتية ما زال مقيدًا بالتصنيفات السرية والبيروقراطية والمقاومة الثقافية. فالسرية لا تزال “عملة” هذا العالم.
ولفهم حجم التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في مكافحة التجسس، يجب فهم كيفية نظرة جمهورية الصين الشعبية — التهديد الاستراتيجي الأكبر لواشنطن — للاستخبارات. تستخدم الصين مقاربة “شاملة على مستوى المجتمع” لجمع المعلومات، مستغلة كل الوسائل والموارد والأشخاص المتاحين لسرقة البيانات العسكرية والتجارية والصناعية الغربية، في إطار استراتيجية كبرى أعلنها الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني شي جينبينغ، تهدف إلى التفوق على الولايات المتحدة وقيادة العالم اقتصاديًا وعسكريًا.
ولتحقيق هدف شي المتمثل في “النهضة الوطنية”، تدمج بكين بين القدرات العسكرية والمدنية، ولا تميز تقريبًا بين الأهداف العسكرية والمدنية في الغرب. ومن خلال تشريعات سلطوية متزايدة الصرامة، سمح الحزب الشيوعي رسميًا لأجهزة استخباراته بسرقة الملكية الفكرية من أهداف غربية لا يمكن تطويرها محليًا. وتشمل أهداف الصين التقنيات الناشئة التي ستشكل مستقبل البشرية هذا القرن، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والهندسة الحيوية.
لا تقتصر الصين على سرقة الأسرار فقط، بل تجمع كل أنواع البيانات، سواء السرية أو المتاحة علنًا. وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، إذ سيسمح لها بتحليل الكميات الضخمة من البيانات المسروقة والمجمعة، والتي تخزنها في مراكز بيانات ضخمة داخل البلاد. ويمكن القول إن الحرب التجارية الأميركية–الصينية التي أعيد إطلاقها في أبريل لم تؤدِ إلا إلى زيادة وتيرة سرقة الملكية الفكرية الأميركية من قبل الصين في محاولة لتجاوز القيود التجارية المفروضة عليها.
إن الفصل الغربي بين القطاعين العام والخاص هو نقطة ضعف تستغلها الصين بشكل منهجي. فالحكومة الأميركية وحدها لا تستطيع مواجهة حجم الهجوم الاستخباراتي الصيني المعتمد على نموذج “كل المجتمع”، والذي يشمل تجنيد علماء ومهندسين داخل شركات أميركية لسرقة الملكية الفكرية. ووفقًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، كانت الوكالة في عام 2022 تفتح تحقيقًا جديدًا مرتبطًا بالصين كل 12 ساعة. كما حذّر المدير السابق لـFBI كريستوفر راي من أن الصين سرقت بيانات شخصية وتجارية أميركية تفوق ما سرقته جميع الدول الأخرى مجتمعة.
ورداً على ذلك، بدأت تتشكل صناعة لمكافحة التجسس في القطاع الخاص، إذ تعزز الشركات إجراءاتها الأمنية الداخلية لمواجهة تهديدات الدول. ففي يناير، تحدث مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة Meta، عن عمل فرق مكافحة التجسس في الشركة، موضحًا أنها ترصد استخدام المنصات من قبل جهات خبيثة.
ولا تقتصر هذه الجهود على Meta؛ فهناك وظائف مماثلة في شركات تكنولوجية كبرى مثل Apple وOpenAI وAmazon وMicrosoft وAccenture وCrowdStrike وTwitter/X. جميع شركات التكنولوجيا العملاقة تتبنى هذا النهج.
وكما هو متوقع، فإن الحكومة الأميركية تتحرك بوتيرة أبطأ بكثير. ورغم تحديث وكالة CIA على مر السنين، فإن بنيتها الأساسية لا تزال كما كانت عند تأسيسها تقريبًا عام 1947. ولو أردنا تصميم مجتمع استخبارات يناسب القرن الحادي والعشرين، لاحتفظ بنفس الأهداف العامة، لكنه سيتخذ شكلًا مختلفًا جذريًا.
وفي ظل وتيرة التغيير السريعة والمخاطر الجيوسياسية المتزايدة، ينبغي لواشنطن أن تعزز قدرة صناعة التكنولوجيا على مراقبة التجسس والرد عليه.
لقد بدأ سباق الاستخبارات بالفعل — ولن يفوز به من يحتفظ بالأسرار، بل من يسيطر على البيانات، ويستخدم الذكاء الاصطناعي، ويعتمد على التعاون. هذا ليس مجرد تطور في تقنيات العمل الاستخباراتي، بل هو إعادة تصميم كاملة لطبيعة الاستخبارات ذاتها. ويجب على الولايات المتحدة أن تقود هذا التحول.