MotasemH

Administrator
طاقم الإدارة
في مقالهما بـ Foreign Affairs، يناقش هنري فاريل وأبراهام نيومان التحول العميق في النظام الدولي مع دخول العالم عصر الاعتماد المتبادل المُسلّح، حيث باتت أدوات الترابط الاقتصادي والتكنولوجي (العقوبات، ضوابط التصدير، البنية التحتية المالية، سلاسل التوريد) تُستغل كسلاح استراتيجي. فقد استخدمت الولايات المتحدة هذه الاختناقات لعقود لتعزيز هيمنتها، لكنها اليوم تواجه ردودًا من الصين والاتحاد الأوروبي الذين يبنون بدورهم أدوات ضغط خاصة بهم. الصين طورت جهازًا بيروقراطيًا شاملًا لتسليح المعادن النادرة والتكنولوجيا، فيما بقيت أوروبا مقيدة بانقساماتها المؤسسية. أما الولايات المتحدة، فإنها تُضعف قدراتها المؤسسية بسبب الشعبوية والقرارات قصيرة الأمد، مما يجعلها أقل قدرة على إدارة المخاطر. ويخلص الكاتبان إلى أن واشنطن تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها الاقتصادية والأمنية، والانتقال من الأحادية إلى التعاون الدولي، إذا أرادت الحفاظ على أمنها وازدهارها في عالم تتزايد فيه المنافسة على السيطرة على نقاط الاختناق الاقتصادية.
الاقتصاد العالمي المُسلّح

The Weaponized World Economy​

عندما أعلنت واشنطن عن "اتفاق إطاري" مع الصين في حزيران/يونيو، شكّل ذلك تحوّلًا صامتًا في تروس الاقتصاد السياسي العالمي. لم يكن ذلك بداية العصر المتخيَّل للرئيس الأميركي دونالد ترامب المتمثل في "التحرر" تحت مظلة العظمة الأميركية الأحادية، ولا عودة إلى حلم إدارة بايدن القائم على إدارة تنافس القوى العظمى. بل كان ذلك الافتتاح الحقيقي لعصر الاعتماد المتبادل المُسلّح، حيث تكتشف الولايات المتحدة ما يعنيه أن تُعامل بالأسلوب نفسه الذي طالما طبّقته هي بحماسة على الآخرين.

سوف يتشكل هذا العصر الجديد من خلال أسلحة الإكراه الاقتصادي والتكنولوجي—مثل العقوبات، وهجمات سلاسل التوريد، وإجراءات التصدير—التي تعيد توظيف نقاط التحكم العديدة في البنية التحتية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي المتشابك. فلأكثر من عقدين، قامت الولايات المتحدة بشكل أحادي بتسليح هذه الاختناقات في التمويل وتدفقات المعلومات والتكنولوجيا لتحقيق مكاسب استراتيجية. لكن التبادل التجاري أصبح متشابكًا بلا أمل مع الأمن القومي، ويجب على الولايات المتحدة الآن أن تدافع عن مصالحها في عالم يمكن لقوى أخرى فيه استغلال اختناقاتها الخاصة.

لهذا كان على إدارة ترامب أن تبرم صفقة مع الصين. فقد اعترف مسؤولو الإدارة بأنهم قدّموا تنازلات في ضوابط تصدير أشباه الموصلات مقابل تخفيف الصين قيودها على معادن الأرض النادرة التي كانت تشلّ صناعة السيارات الأميركية. ويمكن الآن لشركات أميركية مثل Synopsys وCadence، التي توفر برمجيات تصميم الرقائق، أن تبيع تقنيتها في الصين مرة أخرى. هذا التنازل سيساعد صناعة أشباه الموصلات الصينية على الإفلات من المأزق الذي وجدت نفسها فيه عندما بدأت إدارة بايدن تقييد قدرة الصين على بناء أشباه موصلات متقدمة. كما أن شركة Nvidia الأميركية يمكنها مرة أخرى بيع رقائق H20 المخصصة لتدريب الذكاء الاصطناعي للعملاء الصينيين.

وفي خطاب غير ملحوظ في حزيران/يونيو، ألمح وزير الخارجية ماركو روبيو إلى منطق الإدارة. فقد قال إن الصين قد "احتكرت السوق" للمعادن النادرة، مما وضع الولايات المتحدة والعالم في "أزمة". وأدركت الإدارة "أن قدراتنا الصناعية تعتمد بشكل عميق على عدد من الدول القومية الخصمة المحتملة، بما في ذلك الصين، التي يمكن أن تستخدم ذلك ضدنا"، مما يغيّر "طبيعة الجغرافيا السياسية"، في "واحد من أعظم تحديات القرن الجديد."

وعلى الرغم من أن روبيو شدد على الاكتفاء الذاتي كحل، إلا أن اندفاع الإدارة لعقد صفقة يبرهن على حدود السير بمفردها. فالولايات المتحدة تخفف من تهديداتها الخاصة لإقناع الخصوم بعدم شلّ أجزاء حيوية من الاقتصاد الأميركي. كما تكافح قوى أخرى أيضًا لإيجاد طريقة لتعزيز مصالحها في عالم تندمج فيه القوة الاقتصادية مع الأمن القومي، ويتحول فيه الاندماج الاقتصادي والتكنولوجي من وعد إلى تهديد.

اضطرت واشنطن إلى إعادة تشكيل دولتِها الأمنية بعد أن طورت دول أخرى القنبلة الذرية؛ وبطريقة مماثلة، سيكون عليها أن تعيد بناء دولتِها للأمن الاقتصادي لعالم يستطيع فيه الخصوم والحلفاء أيضًا تسليح الاعتماد المتبادل. وباختصار، فإن الأسلحة الاقتصادية تتكاثر كما تكاثرت الأسلحة النووية، مما يخلق معضلات جديدة للولايات المتحدة وقوى أخرى. وقد تكيفت الصين مع هذا العالم الجديد بسرعة لافتة؛ في حين كافحت قوى أخرى، مثل الدول الأوروبية. وسيتعين على الجميع تحديث تفكيرهم الاستراتيجي حول كيفية تداخل عقائدهم وقدراتهم مع عقائد وقدرات القوى الأخرى، وكذلك كيفية استجابة الشركات، التي لها مصالحها وقدراتها الخاصة.

المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة هي أن إدارة ترامب تقوّض الموارد نفسها التي تحتاج إليها لتعزيز المصالح الأميركية والتصدي للخطوات المضادة. ففي العصر النووي، قامت الولايات المتحدة باستثمارات تاريخية في المؤسسات والبنية التحتية وأنظمة الأسلحة التي دفعتها نحو تفوق طويل الأمد. أما الآن، فيبدو أن إدارة ترامب تعمل بنشاط على تقويض تلك مصادر القوة. فبينما تخوض الإدارة مواجهة متبادلة مع الصينيين، فهي تمزّق في الوقت نفسه أنظمة الخبرة الضرورية للتعامل مع المفاضلات المعقدة التي تواجهها. كل إدارة تُجبر على "بناء الطائرة وهي تحلق"، لكن هذه هي الأولى التي تنتزع أجزاء عشوائية من المحرك على ارتفاع 30,000 قدم.

ومع تكيف الصين بسرعة مع الحقائق الجديدة للاعتماد المتبادل المُسلّح، تبني هي بديلها الخاص من الصناعات التكنولوجية الفائقة المتعاضدة، والمتمركزة حول اقتصاد الطاقة. أما أوروبا، فهي متعثرة في الوقت الحالي، لكنها قد تبتكر بمرور الوقت جناحًا بديلًا خاصًا بها من التقنيات. في المقابل، فإن الولايات المتحدة، بشكل فريد، تلقي بامتيازاتها المؤسسية والتكنولوجية جانبًا. إن فشل واشنطن في مواكبة التغيرات في النظام الدولي لن يضر فقط بالمصالح الوطنية الأميركية، بل سيهدد أيضًا الصحة طويلة المدى للشركات الأميركية وسبل عيش المواطنين الأميركيين.​

العالم الذي صنعته العولمة​

يُعدّ الاعتماد المتبادل المُسلّح نتاجًا غير متوقَّع لعصر العولمة الكبير الذي يوشك على الانتهاء. فبعد انتهاء الحرب الباردة، قامت الشركات ببناء اقتصاد عالمي متشابك فوق بنية تحتية متمركزة حول الولايات المتحدة. لقد نسجت المنصات التكنولوجية الأميركية—الإنترنت، والتجارة الإلكترونية، ولاحقًا وسائل التواصل الاجتماعي—أنظمة الاتصالات العالمية معًا. كما اندمجت الأنظمة المالية العالمية بفضل آلية تسوية المعاملات بالدولار، حيث تستخدم الشركات الدولار الأميركي بشكل مباشر أو غير مباشر في الصفقات الدولية؛ والبنوك المراسلة التي تنفذ هذه العمليات؛ وشبكة SWIFT للرسائل المالية. وتم تفريع صناعة أشباه الموصلات المتمركزة في الولايات المتحدة إلى عمليات متخصصة متعددة عبر أوروبا وآسيا، لكن الملكية الفكرية الأساسية، مثل برمجيات تصميم أشباه الموصلات، ظلت في أيدي عدد قليل من الشركات الأميركية. يمكن فهم كل من هذه الأنظمة باعتباره "مكدسًا" خاصًا به، أي مجمعات مترابطة من التقنيات والخدمات ذات الصلة التي عززت بعضها البعض، بحيث أصبح، على سبيل المثال، الانضمام إلى الإنترنت المفتوح يعني بشكل متزايد الانضمام إلى منصات التجارة الإلكترونية الأميركية أيضًا. وفي وقت كان يُنظر فيه إلى الجغرافيا السياسية على أنها مادة لروايات الحرب الباردة القديمة، لم يقلق الكثيرون بشأن الاعتماد على البنية الاقتصادية التحتية التي توفرها دول أخرى.

وكان ذلك خطأ بالنسبة لخصوم واشنطن، وفي نهاية المطاف بالنسبة لحلفائها أيضًا. فبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، بدأت الولايات المتحدة باستخدام هذه الأنظمة لملاحقة الإرهابيين وداعميهم. وعلى مدى عقدين من التجربة التراكمية، وسّعت السلطات الأميركية طموحاتها ونطاقها. فقد انتقلت الولايات المتحدة من استغلال نقاط الاختناق المالية ضد الإرهابيين إلى نشر العقوبات لاستهداف البنوك، ثم لاحقًا إلى قطع دول كاملة، مثل إيران، عن النظام المالي العالمي. وتحول الإنترنت إلى جهاز مراقبة عالمي، مما أتاح للولايات المتحدة أن تطالب المنصات وشركات البحث، الخاضعة لتنظيم السلطات الأميركية، بتسليم معلومات استراتيجية مهمة عن مستخدميها حول العالم.

لقد استُخدمت بنية الاعتماد الاقتصادي المتبادل ضد أعداء الولايات المتحدة وأصدقائها على حد سواء. فعندما انسحبت إدارة ترامب الأولى من خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تفاوضت بشأنها الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى، بما في ذلك في أوروبا، مع إيران عام 2015 للحد من برنامجها النووي، هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الأوروبيين الذين واصلوا ممارسة الأعمال مع الجمهورية الإسلامية. فوجدت الحكومات الأوروبية نفسها عاجزة إلى حد كبير عن حماية شركاتها ضد القوة الأميركية.

في هذا السياق كُتِب لأول مرة عن الاعتماد المتبادل المُسلّح في عام 2019. بحلول ذلك الوقت، كانت العديد من الشبكات الاقتصادية الأكثر أهمية التي تقوم عليها العولمة—الاتصالات، والتمويل، والإنتاج—قد أصبحت مركزية للغاية لدرجة أن عددًا قليلًا من الشركات والفاعلين الاقتصاديين الأساسيين باتوا يسيطرون عليها فعليًا. وكانت الحكومات القادرة على فرض سلطتها على هذه الشركات، وعلى رأسها الحكومة الأميركية، قادرة على استغلالها للحصول على معلومات عن خصومها أو حرمان منافسيها من الوصول إلى هذه النقاط الحيوية في الاقتصاد العالمي. وعلى مدى عقدين، بنت الولايات المتحدة مؤسسات لفرض هذه السلطة وتوجيهها استجابة لسلسلة من الأزمات المحددة.

بعض كبار مسؤولي إدارة ترامب صادفوا أبحاث Foreign Affairs الأكاديمية، وللدهشة، أعجبوا بما وجدوه. فوفقًا لما ورد في كتاب المؤرخ كريس ميلر Chip War الصادر عام 2022، عندما أرادت الإدارة الضغط أكثر على شركة هواوي الصينية لصناعة الاتصالات، استند أحد كبار المسؤولين إلى فكرة الاعتماد المتبادل المُسلّح كدليل لتعزيز ضوابط التصدير ضد أشباه الموصلات، واصفًا المفهوم بأنه "شيء جميل."

لكن الهدف الأساسي كان كشف الجانب القبيح من هذا التسليح. فالعالم الذي صنعته العولمة لم يكن الساحة المسطحة للمنافسة السوقية السلمية التي وعد بها المدافعون عنها. بل كان مليئًا بالتراتبية، وعلاقات القوة، والهشاشات الاستراتيجية.

وفوق ذلك، كان غير مستقر بطبيعته. فالإجراءات الأميركية ستستدعي ردود فعل من المستهدَفين، تليها ردود مضادة من الولايات المتحدة. ويمكن لأكبر القوى أن تلعب دور الهجوم، باحثة عن نقاط ضعف يمكنها هي الأخرى استغلالها. وقد تسعى القوى الأصغر إلى استخدام قنوات تبادل أقل خضوعًا للمساءلة أو الشفافية، لتبني فعليًا "مساحات مظلمة" داخل الاقتصاد العالمي. وكلما زادت الولايات المتحدة في تحويل الروابط ضد خصومها، زاد احتمال أن يقوم هؤلاء الخصوم—بل وحتى الحلفاء—بالانفصال أو الاختباء أو الرد. ومع تسليح الآخرين للاعتماد المتبادل، سيُعاد نسج نسيج الاقتصاد العالمي وفق منطق جديد، مما يخلق عالمًا قائمًا على الهجوم والدفاع أكثر منه على المصلحة التجارية المشتركة.

كما استخدم الرئيس الأميركي جو بايدن أيضًا التسليح كأداة يومية من أدوات الدولة. فقد أخذت إدارته ضوابط التصدير الخاصة بالرقائق من عهد ترامب إلى مستوى جديد، ونشرتها أولًا ضد روسيا لإضعاف برنامجها التسليحي، ثم ضد الصين، بحرمانها من الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة اللازمة لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي بكفاءة. ووفقًا لصحيفة واشنطن بوست، فإن وثيقة صاغها مسؤولو إدارة بايدن بهدف حصر استخدام العقوبات في مشكلات الأمن القومي الملحّة تقلصت بشكل لا مفر منه من 40 صفحة إلى ثماني صفحات من التوصيات عديمة الفاعلية. وقد اشتكى مسؤول سابق من وجود "نظام لا يرحم، لا ينتهي، يفرض عليك معاقبة الجميع بلا استثناء… إنه خارج عن السيطرة."

وطالت المخاوف المماثلة ضوابط التصدير. فقد حذر خبراء السياسات من أن قيود التكنولوجيا شجعت الصين على الإفلات من قبضة الولايات المتحدة وتطوير منظومتها الخاصة من التقنيات المتقدمة. لكن ذلك لم يوقف إدارة بايدن، التي أعلنت في أسابيعها الأخيرة خطة طموحة للغاية لتقسيم العالم كله إلى ثلاثة أقسام: الولايات المتحدة وقلة من أقرب حلفائها كـ"نخبة مختارة"، والأغلبية الكبرى من الدول في الوسط، وعدد قليل من الخصوم الألداء في أسفل القائمة. ومن خلال ضوابط التصدير، ستحافظ الولايات المتحدة وشركاؤها المقربون على الوصول إلى كل من أشباه الموصلات المستخدمة في تدريب الذكاء الاصطناعي القوي وأحدث "الأوزان"—وهي المحركات الرياضية التي تقود النماذج المتقدمة—بينما تحرم منها خصومها وتجبر معظم الدول على الالتزام بقيود عامة. وإذا نجح هذا، فإنه سيضمن تفوقًا أميركيًا طويل الأمد في مجال الذكاء الاصطناعي.

وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تخلت عن هذه الخطة التكنوقراطية الكبرى، فإنها لم تتخلَّ بالتأكيد عن هدف الهيمنة والسيطرة الأميركية على نقاط الاختناق. أما المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة فهي أن الآخرين لا يقفون مكتوفي الأيدي. بل إنهم يبنون الوسائل الاقتصادية والمؤسسية لمقاومتها.​

تذوّق من دوائك​

لقد أخذت أسلحة الاعتماد المتبادل في الانتشار لعدة سنوات، وأصبحت تُستخدم الآن لمواجهة القوة الأميركية. ومع بدء كل من الصين والاتحاد الأوروبي في فهم المخاطر، سعوا بدورهم إلى تعزيز مواطن ضعفهم وربما استغلال مواطن ضعف الآخرين. فبالنسبة لهذه القوى الكبرى، كما هو الحال مع الولايات المتحدة، لا يكفي مجرد تحديد نقاط الاختناق الاقتصادية الرئيسية. بل من الضروري أيضًا بناء جهاز دولتي قادر على جمع معلومات كافية لفهم الفوائد والمخاطر المباشرة ثم استخدام تلك المعلومات. إن نهج الصين يؤتي ثماره اليوم إذ تضغط على مواطن ضعف الولايات المتحدة لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وعلى النقيض، فإن ضعف المؤسسات الداخلية في أوروبا يجبرها على التردد، مما يضعها في موقع خطير إزاء الولايات المتحدة والصين.

وبالنسبة للصين، فقد كشف تسريب المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن عام 2013 لممارسات المراقبة الأميركية عن مدى نفوذ الولايات المتحدة وآليات العصر الجديد. كانت بكين قد نظرت سابقًا إلى الاستقلال التكنولوجي باعتباره هدفًا طويل الأمد مهمًا. لكن بعد سنودن، رأت أن الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية يمثل تهديدًا قصير الأمد وملحًا. وكما أظهرت أعمالنا مع علماء السياسة يلينغ تان ومارك دالاس، بدأت مقالات في وسائل الإعلام الحكومية الصينية تُشيد بالدور الحاسم لـ "أمن المعلومات" و"سيادة البيانات" في الأمن القومي الصيني.

وجاءت الصدمة الحقيقية عندما هددت إدارة ترامب الأولى بقطع شركة ZTE، وهي شركة اتصالات صينية كبرى، عن الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية، ثم قامت بتسليح ضوابط التصدير ضد هواوي، التي رأت الإدارة أنها تهديد عاجل لهيمنة التكنولوجيا الأميركية وللأمن القومي. وبدأت وسائل الإعلام الحكومية الصينية تسلط الضوء على المخاطر التي تشكلها "نقاط الاختناق" والحاجة إلى "الاكتفاء الذاتي".

وقد تُرجمت هذه المخاوف إلى سياسات عملية عندما طور الحزب الشيوعي الصيني نظام "شامل على مستوى الدولة" لتأمين الاستقلال التكنولوجي للصين، داعيًا إلى "اختراقات في تقنيات ومنتجات نقاط الاختناق الكبرى". كما بدأت الصين تفكر في كيفية استغلال مزاياها في تعدين ومعالجة المعادن النادرة، حيث اكتسبت سيطرة خانقة بعد انسحاب الشركات الأميركية وغيرها من السوق. وتأتي قوة الصين في هذا القطاع ليس من احتكار بسيط للمعادن، التي لا تمتلكها بالكامل، بل من سيطرتها على المنظومة الاقتصادية والتكنولوجية اللازمة لاستخراجها ومعالجتها. وتُستخدم هذه المعادن الحيوية على نحو بارز في مجموعة من الأغراض الصناعية عالية التقنية، بما في ذلك إنتاج المغناطيسات المتخصصة الضرورية للسيارات والطائرات وغيرها من التقنيات المتطورة.

كانت الصين قد هددت بالفعل بتقليص إمداداتها من المعادن النادرة لليابان خلال نزاع إقليمي عام 2010، لكنها كانت تفتقر حينها إلى الوسائل لاستغلال نقطة الاختناق هذه بشكل منهجي. وبعد أن أدركت تهديد استغلال الولايات المتحدة لنقاط الاختناق، استعارت الصين صفحة من "دليل" واشنطن. ففي عام 2020، وضعت بكين قانونًا للرقابة على الصادرات أعاد توظيف العناصر الأساسية للنظام الأميركي. وتبعه في عام 2024 لوائح جديدة تقيد تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج. وفي فترة وجيزة، بنت الصين جهازًا بيروقراطيًا لتحويل نقاط الاختناق إلى أداة عملية للضغط. كما أدركت أن القوة في عالم الاعتماد المتبادل المُسلّح لا تأتي من مجرد امتلاك سلع قابلة للاستبدال، بل من السيطرة على المكدس التكنولوجي. فكما قيدت الولايات المتحدة تصدير معدات وبرمجيات تصنيع الرقائق، حظرت الصين تصدير المعدات اللازمة لمعالجة المعادن النادرة. وتمنح هذه الأنظمة التنظيمية المعقدة الصين ليس فقط قدرًا أكبر من السيطرة، بل أيضًا معلومات حيوية عن "من يشتري ماذا"، مما يتيح لها استهداف نقاط الألم لدى الدول الأخرى بدقة أكبر.

لهذا وجد المصنعون الأميركيون والأوروبيون أنفسهم في مأزق هذا حزيران/يونيو. لم تستخدم الصين نظامها الجديد للرقابة على الصادرات ببساطة للرد على ترامب، بل للضغط على أوروبا وثنيها عن الانحياز إلى الولايات المتحدة. فقد كان صانعو السيارات الألمان مثل مرسيدس وبي إم دبليو قلقين تمامًا مثل منافسيهم الأميركيين من أن تتوقف خطوط إنتاجهم من دون المغناطيسات المتخصصة. وعندما توصلت الولايات المتحدة والصين أولًا إلى اتفاق مبدئي، أعلن ترامب على منصة Truth Social أن "جميع المغناطيسات، وأي معادن نادرة ضرورية، ستُزوّد مُسبقًا من الصين"، معترفًا بخطورة التهديد على الاقتصاد الأميركي. إن مشكلة الصين طويلة الأمد هي أن دولتها قوية جدًا ومفرطة التدخل في الاقتصاد المحلي لأغراض سياسية بحتة، مما يعيق الاستثمار وقد يخنق الابتكار. ومع ذلك، وعلى المدى القصير، فقد بنت القدرة الحرجة لإعادة فرض الضوابط كلما رأت ذلك ضروريًا لمقاومة المطالب الأميركية اللاحقة.​

كلها أحاديث​

يبقى السؤال مفتوحًا ما إذا كان بوسع أوروبا أن تصمد أمام ضغوط بكين—وأمام ضغوط واشنطن أيضًا. تمتلك أوروبا العديد من قدرات قوة عظمى جيو-اقتصادية لكنها تفتقر إلى الجهاز المؤسسي الذي يمكّنها من استخدامها. فشبكة SWIFT، على سبيل المثال، مقرها في بلجيكا، وكذلك Euroclear، البنية التحتية لتسوية العديد من الأصول المقومة باليورو. كما تشغل الشركات الأوروبية—بما في ذلك العملاق الهولندي لتقنيات الطباعة الضوئية لأشباه الموصلات ASML، وشركة البرمجيات الألمانية SAP، ومزوّد الاتصالات السويدي Ericsson—مواقع اختناق رئيسية في المكدسات التكنولوجية. ويُعدّ السوق الموحد الأوروبي ثاني أكبر سوق في العالم وفق بعض المقاييس، مما يمنحه القدرة المحتملة على الضغط على الشركات التي تريد بيع السلع للأعمال والمستهلكين الأوروبيين.

لكن ذلك يتطلب من أوروبا أن تبني جناحًا مؤسسيًا متكاملًا خاصًا بها ومكدسًا تقنيًا مستقلًا. وهذا أمر غير مرجح أن يحدث على المدى القصير أو المتوسط، ما لم ينطلق مشروع "EuroStack" الناشئ، الذي يهدف إلى حماية أوروبا من التدخل الأجنبي عبر بناء قاعدة تكنولوجيا معلومات مستقلة. وحتى مع أن أوروبا تنبّهت إلى خطر الاعتماد المتبادل المُسلّح خلال إدارة ترامب الأولى، إلا أنها سرعان ما عادت لتغفل عنه.

وللإنصاف، فإن نقاط ضعف الاتحاد الأوروبي تعكس أيضًا ظروفه الفريدة: فهو يعتمد على راعٍ عسكري خارجي. وقد زاد الغزو الروسي لأوكرانيا من اعتماد أوروبا قصير الأمد على الولايات المتحدة، في الوقت الذي تكافح فيه الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية. وضعت إدارة بايدن طابعًا وديًا على الإكراه الاقتصادي، منسقةً مع حكومات أوروبية مثل هولندا لتقييد صادرات معدات ASML إلى الصين. وفي الوقت نفسه، زوّدت الولايات المتحدة أوروبا بالاستخبارات التفصيلية التي احتاجتها لتطبيق العقوبات المالية وضوابط التصدير ضد روسيا، مما جعل تطوير أوروبا لقدراتها الخاصة أقل إلحاحًا.

وتتفاقم لا مبالاة أوروبا بسبب الانقسامات الداخلية. فعندما فرضت الصين سلسلة من قيود التصدير على ليتوانيا لمعاقبتها على دعمها السياسي لتايوان عام 2021، ضغطت الشركات الألمانية على الحكومة الليتوانية للتهدئة. مرارًا وتكرارًا، أُحبط رد أوروبا على تهديد الإكراه الاقتصادي الصيني بسبب الشركات الأوروبية التي تسعى بيأس للحفاظ على وصولها إلى الأسواق الصينية. وفي الوقت نفسه، تُخفف الإجراءات الهادفة إلى تعزيز الأمن الاقتصادي باستمرار من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أو تُقيّد ببعثات تجارية إلى بكين، مليئة بمسؤولين كبار متحمسين لإبرام الصفقات.

وبشكل أعمق، تجد أوروبا صعوبة بالغة في العمل بشكل منسجم في قضايا الأمن الاقتصادي لأن دولها تحتفظ بشكل غيور بسيطرتها الفردية على الأمن القومي، في حين يدير الاتحاد الأوروبي ككل شؤون التجارة والجوانب الرئيسية من تنظيم السوق. هناك العديد من المسؤولين الأكفاء المنتشرين عبر مديرية التجارة في المفوضية الأوروبية وعواصم الدول الأعضاء، لكن توجد وسائل قليلة لتنسيق إجراءات واسعة النطاق تجمع الأدوات الاقتصادية مع الأهداف الأمنية.

والنتيجة أن لدى أوروبا وفرة من أهداف الأمن الاقتصادي لكنها تفتقر إلى الوسائل لتحقيقها. وعلى الرغم من أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد حذرت من "خطر تسليح الاعتماد المتبادل"، وأعدّت مفوضيتها استراتيجية متطورة فعلًا للأمن الاقتصادي الأوروبي، إلا أنها لا تمتلك الأدوات البيروقراطية اللازمة لتحقيق نتائج. فلا يوجد لديها ما يعادل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC)، القادر على جمع المعلومات واستهداف الإجراءات ضد الخصوم، أو ما يعادل جهاز الرقابة على الصادرات الجديد في الصين.

ويتمثل الاختبار المباشر فيما إذا كانت أوروبا ستستخدم سلاحها الكبير المزعوم، "أداة مكافحة الإكراه"، أم ستتركه يصدأ حتى يصبح غير ذي جدوى. هذا الآلية القانونية المعقدة—التي تتيح للاتحاد الأوروبي الرد على الإكراه من خلال مجموعة واسعة من الأدوات، بما في ذلك تقييد الوصول إلى السوق، والاستثمار الأجنبي المباشر، والمشتريات العامة—من المفترض أن تمكّن بروكسل من الرد على الحلفاء والخصوم. وقد صُممت هذه الأداة كاستجابة لتهديد إدارة ترامب الأولى، ثم أعيد تجهيزها على عجل لتوفير وسيلة للتصدي للصين.

لكن منذ البداية، أوضح المسؤولون الأوروبيون أنهم يأملون بألا يضطروا يومًا لاستخدام أداة مكافحة الإكراه فعليًا، معتقدين أن مجرد وجودها سيكون رادعًا كافيًا. وقد تبين أن ذلك سوء تقدير جسيم. فالأداة مثقلة بضمانات قانونية تهدف إلى ضمان عدم نشر المفوضية الأوروبية لها دون موافقة كافية من الدول الأعضاء. وهذه الضمانات تجعل قوى أخرى مثل الصين والولايات المتحدة تشك في أنها ستُستخدم ضدها يومًا ما. كما أن طول عملية نشرها يمنحهم الفرصة التي يحتاجونها لإبطال أي إجراء تنفيذي، باستخدام التهديدات والوعود لتعبئة المعارضة الداخلية ضدها. وكما هو الحال مع الجهود الأوروبية السابقة لعرقلة العقوبات، يمكن للصين والولايات المتحدة عادة أن تراهن على مبدأ EACO الذي يفيد بأن "أوروبا دائمًا تتراجع" في المواجهات الجيو-اقتصادية. تفتقر أوروبا إلى المعلومات والقوة المؤسسية والتوافق الداخلي للقيام بالكثير غير ذلك.

إن أداة مكافحة الإكراه هي النقيض التام لـ "آلة يوم القيامة" في فيلم Dr. Strangelove، السخرية الكلاسيكية من الحرب الباردة. كانت تلك الآلة كارثية لأنها كانت تطلق الصواريخ النووية تلقائيًا ردًا على أي هجوم لكنها أبقيت سرًا محكمًا حتى وقع هجوم. وعلى العكس، يتحدث المسؤولون الأوروبيون بلا انقطاع عن أداة يوم القيامة الخاصة بهم، لكن خصوم أوروبا واثقون من أنها لن تُستخدم أبدًا؛ ويشجعهم هذا اليقين على ممارسة الإكراه ضد الشركات والدول الأوروبية على هواهم.​

التخريب الذاتي​

تُعطَّل أوروبا بسبب نقاط ضعف بنيوية، لكن صعوبات الولايات المتحدة تنبع في الغالب من خياراتها الذاتية. فبعد عقود من بناء آلة معقدة للحرب الاقتصادية ببطء، تعمل الولايات المتحدة الآن على تمزيقها.

ويُعزى ذلك جزئيًا إلى نتيجة غير مقصودة للسياسة الداخلية. فقد فرضت إدارة ترامب الثانية تجميدًا على التوظيف في جميع أنحاء الحكومة الفدرالية، مما أصاب العديد من المؤسسات، بما في ذلك مكتب وزارة الخزانة لمكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية، الذي يشرف على مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، تاركًا مناصب أساسية شاغرة وأقسامًا تعاني نقص الموظفين. وتشير مقترحات الموازنة الأولية إلى خفض عام في تمويل المكتب، حتى مع استمرار ارتفاع عدد البرامج المرتبطة بالعقوبات. وعلى الرغم من أن وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك أعرب عن دعمه لمكتب الصناعة والأمن التابع لوزارته، المسؤول أساسًا عن ضوابط التصدير، فإن الوكالة فقدت أكثر من عشرة موظفين ضمن تخفيضات واسعة في القوة الحكومية. لم يكن مكتب OFAC ومكتب الصناعة والأمن يومًا بكل القدرة التي توحي بها سمعتهما، وكانا يرتكبان أخطاء أحيانًا. ومع ذلك، فقد منحا واشنطن ميزة استثنائية. فلم تكن لدى الدول الأخرى أي مكافئ لخرائط OFAC عن التمويل العالمي أو الفهم التفصيلي لسلاسل توريد أشباه الموصلات الذي طوره مسؤولون رئيسيون في مجلس الأمن القومي في إدارة بايدن.

هذا التدهور المؤسسي هو النتيجة الحتمية للترامبية. ففي نظر ترامب، كل القيود المؤسسية على سلطته غير مشروعة. وقد أدى ذلك إلى إعادة هيكلة كبيرة للجهاز الذي وُجِّهت من خلاله قرارات الأمن الاقتصادي على مدى العقود الماضية. وكما وثّقت الصحفية نهال طوسي في Politico، فقد خفّض مجلس الأمن القومي، المفترض أن ينسّق سياسة الأمن عبر الحكومة الفدرالية ووكالاتها، عدد موظفيه إلى النصف. وتعرّضت وزارة الخارجية للانهيار بسبب تخفيضات في الوظائف، بينما تلاشت تقريبًا العملية التقليدية بين الوكالات التي يتم من خلالها صياغة السياسات وإبلاغها، تاركةً المسؤولين في الظلام بشأن ما هو متوقع منهم، مما أتاح لمسؤولين مغامرين أن يملؤوا الفراغ بمبادرات غير منسقة خاصة بهم. وبدلًا من ذلك، تتركز السياسة حول ترامب نفسه ومن تحدث إليه آخرًا في موكب غير منضبط من الزوار يتدفقون عبر المكتب البيضاوي. ومع حلول الشخصانية محل صنع القرار البيروقراطي، تتغلب الأرباح قصيرة الأمد على المصلحة الوطنية طويلة الأمد.

وهذا ما يقود إلى مقاومة من الحلفاء—ومن المحاكم الأميركية أيضًا. فقد حذر رئيس الوزراء الكندي مارك كارني مؤخرًا من أن "الولايات المتحدة بدأت تسيّل هيمنتها." وقد تكون المحاكم الفدرالية الأميركية، التي طالما كانت مطيعة للغاية للسلطة التنفيذية في قضايا الأمن القومي، بدأت تفكر مرتين. ففي أيار/مايو، أصدر محكمة التجارة الدولية الأميركية قرارًا لافتًا، معتبرة أن الولايات المتحدة قد تجاوزت سلطتها عندما استندت إلى قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية (IEEPA)—الركيزة القانونية لكثير من القوة القسرية الأميركية—لفرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك. وقد استُأنف القرار أمام محكمة الاستئناف للدائرة الفدرالية، لكن الحكم يُرجَّح أن يكون مجرد بداية للعديد من الطعون. ومن اللافت أن قضية التجارة نتجت عن شكوى رفعها محامون محافظون وليبرتاريون.

إن هجوم إدارة ترامب على مؤسسات الدولة يضعف المصادر المادية للقوة الأميركية. فعبر القطاعات الأساسية—التمويل، التكنولوجيا، والطاقة—تجعل الإدارة الولايات المتحدة أقل مركزية مما كانت عليه. يدفع ترامب وحلفاؤه بقوة نحو العملات المشفّرة، التي هي أكثر غموضًا وأقل خضوعًا للمساءلة من الدولار التقليدي، ويتخلون عن إجراءات الإنفاذ ضد منصات العملات المشفّرة التي تمكّن من التهرب من العقوبات وغسل الأموال. ففي نيسان/أبريل، رفعت الحكومة الأميركية العقوبات عن Tornado Cash، وهي خدمة غسلت مئات الملايين من الدولارات من العملات المشفّرة المسروقة لصالح كوريا الشمالية، وفقًا لوزارة الخزانة الأميركية. كما أن الولع الأميركي الحزبي المشترك بـ "العملات المستقرة"، وهو نوع من العملات المشفّرة، يدفع الصين وأوروبا إلى تسريع جهودهما لتطوير أنظمة دفع بديلة.

وفي بعض الحالات، عكست إدارة ترامب سياسات بايدن وروّجت لنشر التكنولوجيا التي كانت خاضعة للرقابة سابقًا. ففي صفقة لافتة مع الإمارات العربية المتحدة، وافقت إدارة ترامب على تسهيل التوسع الضخم لمراكز البيانات في المنطقة باستخدام أشباه موصلات أميركية متقدمة، على الرغم من استمرار علاقات الإمارات مع الصين وتحذيرات خبراء السياسة من أنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتمد على الشرق الأوسط في الذكاء الاصطناعي.

ومؤخرًا، فإن مشروع الإنفاق الذي دفع به ترامب وحلفاؤه في الكونغرس هذا الصيف تنازل فعليًا عن السيطرة على تكنولوجيا الطاقة من الجيل التالي للصين عبر إعادة تكريس الاعتماد على الاقتصاد الكربوني. وحتى في الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على مواجهة النفوذ الصيني في المعادن الحيوية، فإنها تُلغي التدابير الهادفة إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على سلاسل التوريد الصينية في المجالات الحيوية للطاقة المتجددة وتطوير البطاريات، وتقلّص بشكل جذري استثماراتها في العلوم. والنتيجة هي أن الولايات المتحدة ستواجه خيارًا غير مرغوب فيه بين الاعتماد على تكنولوجيا الطاقة الصينية أو محاولة الاكتفاء بتقنيات متهالكة من عصر سابق.

قد يتوقع المرء أن تستجيب الولايات المتحدة لعصر الاعتماد المتبادل المُسلّح كما استجابت لعصر الانتشار النووي السابق: بإعادة معايرة استراتيجيتها طويلة الأمد، وبناء القدرات المؤسسية اللازمة لصنع سياسة رشيدة، وتعزيز موقعها العالمي. لكن بدلاً من ذلك، فإنها تراهن على صفقات قصيرة الأمد، وتمزق القدرة المؤسسية على تحليل المعلومات وتنسيق السياسات، وتسمم المحاور الاقتصادية والتكنولوجية التي لا تزال تسيطر عليها.

وهذا لا يؤثر فقط على قدرة واشنطن على إكراه الآخرين؛ بل يقوض أيضًا جاذبية المنصات الاقتصادية الأميركية الرئيسية. فقد استغل استخدام الاعتماد المتبادل المُسلّح دائمًا مزايا "المكدس الأميركي": الجناح المتكامل من العلاقات المؤسسية والتكنولوجية التي جذبت الآخرين إلى مدار الولايات المتحدة. وعندما كان يُستخدم بحكمة، كان التسليح يتقدم ببطء وضمن حدود يمكن للآخرين تحملها.

لكن الآن، تدخل الولايات المتحدة في دوامة سريعة وغير قابلة للسيطرة من استنزاف أصولها، ساعية وراء أهداف قصيرة الأمد على حساب الأهداف طويلة المدى. وهي تستخدم أدواتها بشكل عشوائي متزايد يدعو إلى الحسابات الخاطئة والعواقب غير المتوقعة. وهي تفعل ذلك في عالم لا تطور فيه دول أخرى قدراتها على معاقبة الولايات المتحدة فحسب، بل تبني أيضًا مكدسات تكنولوجية قد تكون أكثر جاذبية للعالم من تلك الأميركية. وإذا قفزت الصين إلى الأمام في تكنولوجيا الطاقة، كما يبدو مرجحًا، فسوف تُسحب دول أخرى إلى مدارها. وستبدو التحذيرات الأميركية القاتمة من مخاطر الاعتماد على الصين جوفاء بالنسبة لدول تدرك تمامًا مدى استعداد الولايات المتحدة لتسليح الاعتماد المتبادل لأغراضها الأنانية الخاصة.​

حان وقت إعادة البناء​

في العقود الأولى من العصر النووي، واجه صانعو السياسات الأميركيون قدرًا هائلًا من عدم اليقين حول كيفية تحقيق الاستقرار والسلام. وقد دفعهم ذلك إلى القيام باستثمارات كبرى في المؤسسات والعقائد الاستراتيجية التي يمكن أن تمنع السيناريوهات الكابوسية. أما اليوم، ومع دخول واشنطن لحظة مشابهة في عصر الاعتماد المتبادل المُسلّح، فإنها تجد نفسها في وضع محفوف بالمخاطر بشكل خاص.

تدرك الإدارة الأميركية الحالية أن الولايات المتحدة ليست فقط قادرة على استغلال مواطن ضعف الآخرين الاقتصادية، بل هي أيضًا عرضة لضعف عميق. ومعالجة هذه المشكلات، مع ذلك، ستتطلب من الإدارة أن تتصرف على نحو يتعارض مع أعمق غرائز ترامب.

المشكلة الأساسية هي أنه مع اندماج السياسة الأمنية والسياسة الاقتصادية، يتعين على الحكومات التعامل مع ظواهر معقدة للغاية لا تخضع لسيطرتها: سلاسل التوريد العالمية، التدفقات المالية الدولية، والأنظمة التكنولوجية الناشئة. لقد ركزت العقائد النووية على التنبؤ بردود فعل خصم واحد؛ أما اليوم، حيث تتشكل الجغرافيا السياسية إلى حد كبير بفعل الاعتماد المتبادل المُسلّح، فعلى الحكومات أن تتنقل في تضاريس تضم لاعبين أكثر بكثير، وأن تفكر في كيفية إعادة توجيه سلاسل التوريد الخاصة بالقطاع الخاص في اتجاهات لا تضر بها، مع توقع ردود أفعال عدد هائل من الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين.

إن جعل الولايات المتحدة قادرة على الصمود في عصر الاعتماد المتبادل المُسلّح سيتطلب أكثر من مجرد وقف عملية التفكيك السريعة وغير المخططة للهياكل البيروقراطية التي تكبح السياسات الارتجالية والمصالح الذاتية. فالاستراتيجية الناجحة في عصر الاعتماد المتبادل المُسلّح تتطلب بناء هذه المؤسسات نفسها، لتصبح أكثر مرونة وأكثر قدرة على تطوير الخبرة العميقة اللازمة لفهم عالم معقد للغاية، يحمل خصوم واشنطن فيه الكثير من أوراق القوة. قد يكون ذلك صعب الترويج له في نظام سياسي بات يرى في "الخبرة" كلمة سيئة، لكنه ضروري للغاية للحفاظ على المصلحة الوطنية.

لقد ركزت واشنطن أكثر على التفكير في كيفية استخدام هذه الأسلحة بدلًا من التفكير في متى لا ينبغي استخدامها. لقد كانت الدول الأخرى مستعدة للاعتماد على البنية التحتية التكنولوجية والمالية الأميركية على الرغم من المخاطر، لأنها كانت ترى في الولايات المتحدة حكومة يُقيدها، إلى حد ما، حكم القانون واستعدادها للنظر في مصالح حلفائها. وقد تغيّر هذا الحساب، على الأرجح بشكل لا رجعة فيه، مع جعل إدارة ترامب الثانية الأمر واضحًا بأنها تنظر إلى الدول التي ارتبطت بها الولايات المتحدة تاريخيًا أقل كحلفاء وأكثر كدول تابعة. ومن دون حدود واضحة وقابلة للتنفيذ على الإكراه الأميركي، ستجد الشركات متعددة الجنسيات الأميركية الكبرى، مثل Google وJ. P. Morgan، نفسها محاصرة في أرض "اللا أحد" في منطقة حرب جديدة، تتلقى النيران من جميع الجهات. ومع عمل الدول على عزل نفسها عن الإكراه الأميركي (والبنية التحتية الأميركية)، تشهد الأسواق العالمية تجزؤًا وانقسامًا عميقًا. وقد حذّر وزير الخزانة الأميركي السابق لاري سامرز من وجود "قبول متزايد للتجزؤ" في الاقتصاد العالمي، بل وربما ما هو أكثر إزعاجًا—"أعتقد أن هناك إحساسًا متناميًا بأن جزءنا قد لا يكون الأفضل للارتباط به."

ويشير ذلك بدوره إلى درس أعمق. لقد استفادت الولايات المتحدة من قدرتها على تسليح الاعتماد المتبادل على مدى ربع القرن الماضي. فقد تمتعت بمزايا اقتصاد دولي قائم على مؤسسات متعددة الأطراف ونظام تكنولوجي بُني حول صورتها الذاتية كقوة ليبرالية، حتى وهي تتصرف بطرق أحادية الجانب وأحيانًا غير ليبرالية لتأمين مصالحها كما تراها. حتى قبل عام واحد فقط، كان بعض المفكرين وصانعي السياسات الأميركيين يأملون أن يتمكن هذا النظام من البقاء في المستقبل غير المحدود، بحيث تستمر القوة القسرية الأحادية الأميركية والقيم الليبرالية في السير جنبًا إلى جنب.

لكن يبدو أن ذلك أصبح غير مرجح على الإطلاق. تواجه الولايات المتحدة خيارًا: إما عالم يتعزز فيه الإكراه الأميركي العدواني وتراجع الهيمنة الأميركية بعضهما البعض، أو عالم تعيد فيه واشنطن الاصطفاف مع دول أخرى ذات عقلية ليبرالية عبر التخلي عن إساءة استخدام صلاحياتها الأحادية. لم يمض وقت طويل حتى كان المسؤولون الأميركيون والعديد من المفكرين يرون أن عصر الاعتماد المتبادل المُسلّح وعصر الهيمنة الأميركية شيء واحد. لكن مثل هذه الافتراضات تبدو الآن متقادمة، مع امتلاك دول أخرى لهذه الأسلحة أيضًا. وكما في العصر النووي، تحتاج الولايات المتحدة إلى الابتعاد عن الأحادية، نحو الانفراج والسيطرة على التسلح، وربما على المدى الطويل جدًا، نحو إعادة بناء اقتصاد عالمي متشابك على أسس أكثر متانة. إن الفشل في ذلك سيعرض كلًا من الأمن الأميركي وازدهاره للخطر.​
 
عودة
أعلى