MotasemH

Administrator
طاقم الإدارة
في مقاله المنشور في Foreign Affairs، يجادل مارك لينش بأن ما يبدو لحظة انتصار إسرائيلي–أميركي بعد صفقة غزة ليس بداية لـ“شرق أوسط جديد”، بل لحظة عابرة تكشف حدود القوة الإسرائيلية. فصفقة ترامب لإنهاء الحرب وإطلاق الرهائن فتحت بابًا لتحرّك دبلوماسي أوسع وأعادت بعض الحماسة العربية لفكرة التطبيع، لكنها لم تُلغِ الحقائق الأعمق: النظام الإقليمي ما زال يقوم على اسبقية أميركية غير محبوبة وانقسام راسخ إلى معسكر تقوده واشنطن (يضم إسرائيل ومعظم العرب وتركيا) في مقابل المعسكر الإيراني. يبيّن لينش أن إسرائيل، المخدوعة بتصور تفوق استراتيجي دائم بعد ضرب حماس، حزب الله، وأهداف إيرانية، تجاهلت أن تدمير غزة، والحديث عن ضمّ الضفة، والتهديد بترحيل الفلسطينيين جعلها تبدو في نظر عواصم الخليج تهديدًا بقدر ما هي شريك، خصوصًا بعد محاولة الاغتيال في الدوحة. ويخلص إلى أن إسرائيل لا تستطيع فرض نظام إقليمي بالقصف من الجو؛ فالقيادة الإقليمية تحتاج قبولًا عربيًا ومسارًا حقيقيًا نحو دولة فلسطينية، بينما تعتمد إسرائيل عسكريًا على الولايات المتحدة، ويتآكل الإجماع الأميركي عليها، ما يجعل هيمنتها قابلة للتبخر سريعًا إذا جفّ “الشيك على بياض” من واشنطن.
خيال الشرق الأوسط الجديد

The Fantasy of a New Middle East​

يشهد النظام الإقليمي في الشرق الأوسط تحوّلًا سريعًا، لكن ليس بالطريقة التي يتصورها العديد من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين. فقد دفعت جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة إلى إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين الباقين على قيد الحياة، وإلى فترة راحة من القتل والدمار المتواصلين اللذين خلّفا جراحًا عميقة في القطاع. هذا الاختراق أثار آمالًا بتحوّل إقليمي أوسع، حتى وإن ظلّ ما سيحدث بعد وقف إطلاق النار الأوّلي غامضًا إلى حدّ كبير. يتحدث ترامب نفسه عن “فجر السلام في الشرق الأوسط”. وإذا حال اتفاقه دون طرد الفلسطينيين من غزة وضمّ الضفة الغربية، فقد تسعى العديد من الحكومات العربية مجددًا إلى استكشاف سبل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وبالفعل، رأى الإسرائيليون في ضغوط الزعماء العرب على حركة حماس لقبول اتفاق ترامب دليلًا على أن التطبيع قد يعود مجددًا إلى جدول الأعمال.

لكن حتى لو صمد اتفاق غزة، فإن لحظة التقاطع بين واشنطن وتل أبيب هذه لن تدوم طويلًا. فاعتقاد إسرائيل الخاطئ بأنها قد أرست تفوّقًا استراتيجيًا دائمًا على خصومها سيقودها على الأرجح إلى اتخاذ خطوات استفزازية متزايدة تتعارض مباشرة مع أهداف البيت الأبيض. أما دول الخليج التي تحلم إسرائيل بضمها إلى صفّها، فهي تشك في قدرتها أو رغبتها في حماية مصالحها الجوهرية. ولم تعد تلك الدول تولي اهتمامًا كبيرًا بمواجهة إيران، كما لم تعد مقتنعة بأن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب. ويبدو أن إسرائيل لا تدرك مدى التقارب بين ترامب ودول الخليج.

لقد غلب التفكير الرغائبي على الحكومة الإسرائيلية ومؤسستها الأمنية القومية، اللتين انهمكتا في استغلال الفرص التي أتاحتها ممارسة القوة. فبعد هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، شرعت إسرائيل في سلسلة متصاعدة من الغارات الجوية والتدخلات في أرجاء المنطقة، لم تستهدف حماس فحسب، بل المحور الإيراني بأكمله، متجاوزةً الخطوط الحمراء التي حكمت حرب الظل الإقليمية منذ زمن طويل. فقد اغتالت قادة كانوا يُعدّون untouchable — أي عصيّين على الاستهداف: زعيم حزب الله حسن نصر الله بقنبلة ضخمة أُلقيت في وسط بيروت، والقيادي السياسي في حماس إسماعيل هنية في منزل آمن بإيران، وعددًا من القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا، ورئيس وزراء الحوثيين في اليمن. أما قصفها للمواقع النووية والعسكرية داخل إيران فقد مثّل ذروة رغبة إسرائيل القديمة في توجيه ضربة إلى قلب عدوها الأكبر.

غير أن هجومًا في منطقة الخليج أثبت أنه نقطة تحوّل مفاجئة. فقد كانت محاولة إسرائيل الصادمة اغتيالَ قادة من حماس اجتمعوا في الدوحة في سبتمبر، في إطار مفاوضات برعاية أميركية، تصعيدًا دراماتيكيًا في سعيها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوة الجوية. كان ذلك من قبيل المغامرات التي لا يقدم عليها سوى من يعتقد أنه بمنأى تام عن عواقب أفعاله. لكن ترامب قرر هذه المرة أن إسرائيل قد تجاوزت الحدود. وصورة ترامب العابس وهو يشاهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقرأ اعتذارًا مكتوبًا بخضوع خلال مكالمة هاتفية مع أمير قطر، بدت رمزًا للحظة الجيوسياسية المتغيرة التي أفضت إلى وقف إطلاق النار الأول في غزة.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان استياء ترامب من إسرائيل سيُفضي إلى تغييرات ملموسة تتجاوز وقف إطلاق النار. فبحجة هجمات مزعومة لحماس في جنوب غزة، استأنف الجيش الإسرائيلي هذا الأسبوع قصف أجزاء من القطاع. وستكون مصلحة إسرائيل أكبر لو تراجعت عن حافة الهاوية واستثمرت فرصة وقف إطلاق النار لتخفيف نزعتها العسكرية والسعي نحو نظام إقليمي مستدام لا يمكن بلوغه إلا من خلال تحرك جاد نحو إقامة دولة فلسطينية. لقد كشفت الحرب الطويلة عن نقاط ضعف إسرائيل: أنظمة دفاعها الصاروخي لا توفر أمنًا مطلقًا، واقتصادها لا يستطيع تحمّل حرب لا نهاية لها، وسياساتها الداخلية تعصف بها الفوضى بعد فترة الصراع الطويلة في غزة، وجيشها لا يزال يعتمد اعتمادًا عميقًا على الولايات المتحدة. لقد دمّر دمارُ غزة مكانةَ إسرائيل في العالم، وجعلها أكثر عزلةً ووحدة.

لا يمكن لإسرائيل أن تقصف الشرق الأوسط لتصنع منه نظامًا جديدًا مستقرًا. فالقيادة الإقليمية تتطلب أكثر من مجرد تفوق عسكري، إذ تحتاج إلى قدر من القبول والتعاون من القوى الإقليمية الأخرى. لكن لا أحد في الشرق الأوسط يريد قيادة إسرائيل، وكل الدول تخشى اليوم قوتها المنفلتة من القيود. وفي واشنطن، يحتفي بعضهم باحتمال أن تترك إسرائيل العنان لنفسها لتدمّر خصوم الولايات المتحدة. لكن عليهم أن يحذروا مما يتمنونه؛ فمصالح إسرائيل ليست هي نفسها مصالح الولايات المتحدة، وإسرائيل تكتب شيكات قد لا تكون واشنطن راغبة أو قادرة على صرفها.​

النظام القديم والآتي​

لقد تجاوزت محاولة إسرائيل لإعادة تشكيل المنطقة ما كان يتخيله معظم الناس، لكنها تسير عكس التيار. فعلى مدى السنوات الخمس والثلاثين الماضية، ظل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط مستقرًا على نحو لافت. فخلف الاضطرابات والعنف والتقلّبات المستمرة ظاهريًا، لم يشهد الهيكل الأساسي للسياسة الإقليمية سوى لحظات قليلة من إمكانية التغيير — لم يدم أيٌّ منها طويلًا. يقوم هذا الهيكل على هيمنةٍ أميركيةٍ غير مريحة وغير شعبية وغير مرغوبة في معظم الأحيان على المستوى الدولي، إلى جانب انقسامٍ راسخٍ للغاية — وإن لم يُعترف به دائمًا — للمنطقة إلى كتلتين متنافستين.

نشأ هذا النظام الإقليمي مع الهيمنة الأميركية العالمية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. ففي أثناء الحرب الباردة، كانت دول المنطقة تملك خيار المناورة بين القوتين العظميين، فيما كانت واشنطن وموسكو تبديان قلقًا مفرطًا من احتمال خسارة حلفائهما المحليين. لكن بعد عام 1991، باتت جميع الطرق تمر عبر واشنطن. وأصبح السؤال الحاسم هو ما إذا كانت الدول تقع داخل ذلك النظام أم خارجه. فالدول الواقعة داخله — مثل إسرائيل ومعظم الدول العربية — تمتعت بضمانات أمنية، وإمكانية الوصول إلى المؤسسات الدولية ومصادر التمويل، وحماية دبلوماسية. أما الدول الواقعة خارجه — إيران والعراق وليبيا وسوريا — فقد واجهت عقوبات مشلّة، وغارات متكررة وتدخلات سرّية، وحملات تشويه ممنهجة. لذلك ليس من المستغرب أن ليبيا وسوريا أمضتا معظم تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة في محاولاتٍ لاستعادة رضا واشنطن والعودة إلى النظام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة.

غير أن الهيمنة الأميركية، التي أضعفتها كارثة الغزو الأميركي للعراق والأزمة المالية العالمية عام 2008، لم تعد تبدو منيعة كما كانت في العقود السابقة. ومع ذلك، تبقى التعددية القطبية احتمالًا بعيد المنال. فروسيا لم يكن لها سوى حليف واحد في المنطقة — نظام الرئيس السوري بشار الأسد المترنّح — والآن، بعد إطاحة الأسد عام 2024، لم يعد لديها أي حليف. أما الصين، فرغم صعودها الاقتصادي الهائل وشبكة الاتفاقات الاستراتيجية الواسعة التي أبرمتها مع قوى المنطقة، فإنها لم تقدّم حتى الآن أي تحدٍ حقيقي للنظام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد ظلّت بكين شبه غائبة عن قضية غزة، واكتفت بإدانة القصف الإسرائيلي والأميركي لإيران. وتمتلك الصين قاعدة بحرية واحدة فقط في المنطقة — موقعًا صغيرًا في جيبوتي مخصّصًا لمهام مكافحة القرصنة في خليج عدن — لكنها لم تفعل شيئًا عندما قام الحوثيون بمحاصرة الملاحة في البحر الأحمر ردًّا على الحملة الإسرائيلية في غزة. في الوقت الراهن، يبدو أن الصين تفضّل الاستفادة المجانية من الهيمنة العسكرية الأميركية في الخليج، رغم اعتمادها الكبير على النفط والغاز من الشرق الأوسط. وبينما تحاول دول المنطقة تنويع شراكاتها العسكرية والاقتصادية والتفاوض على صفقاتٍ أفضل مع واشنطن، لم يظهر حتى الآن بديلٌ حقيقي للهيمنة الأميركية.

ومنذ عام 1991، استقرت دول الشرق الأوسط في نظامٍ إقليميٍ ثنائي الوظيفة يقسّم المنطقة فعليًا إلى كتلتين: كتلة تقودها الولايات المتحدة تضم إسرائيل ومعظم الدول العربية وتركيا، وأخرى تضم إيران وحلفاءها الإقليميين. ويشعر قادة الخليج بالارتياح تجاه نهج ترامب القائم على الصفقات ومعاملاته المباشرة التي يجد فيها مجالًا مثاليًا لتوظيف ثرواتهم النفطية. أما “اتفاقات أبراهام”، التي وقّعتها عدة دول عربية عام 2020 لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بناءً على مبادرة ترامب، فلم تغيّر سوى المظاهر، إذ كانت تلك الدول تربطها أصلًا علاقات استراتيجية مع إسرائيل في مواجهة إيران.

لقد أثبت هذا النظام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة صلابته اللافتة. فلم يؤثر انهيار عملية السلام الفلسطينية–الإسرائيلية عام 2001 ولا الانتفاضة الثانية العنيفة في بنيته الأساسية. ولم تُحدث هجمات 11 سبتمبر، ولا الغزو الكارثي للعراق، ولا السياسات شديدة الرفض التي اتُّبعت باسم “الحرب العالمية على الإرهاب” أيّ خلخلة حقيقية فيه. بل إن تلك الكوارث عزّزت موقع الكتلة الإيرانية، التي بدا لسنوات طويلة أنها في صعودٍ متواصل، مع إحكام حلفائها سيطرتهم على بغداد وبيروت وصنعاء، وبقاء نظام الأسد في دمشق، وتطوير كلٍّ من حماس وحزب الله لترساناتٍ ضخمة من الصواريخ وقدراتٍ عسكريةٍ متقدمة.

خلال الاضطرابات الكبرى التي شهدتها المنطقة في حقبة الانتفاضات العربية بعد عام 2011، تحوّل ذلك النظام الثنائي إلى ما يشبه نظامًا ثلاثيّ الأقطاب. فقد حافظ “محور المقاومة” الإيراني على تماسكه إلى حدٍّ كبير، لكن التهديدات والفرص التي فجّرتها تلك التحوّلات السياسية دفعت إلى منافسة مدمّرة على جبهاتٍ إقليميةٍ متعددة، فانقسم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى معسكرين: قطر وتركيا من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، فيما كافحت واشنطن للإبقاء عليهما متعاونتين نحو أهدافٍ مشتركة. وقد شكّل الحصار الإماراتي–السعودي لقطر بين عامي 2017 و2021 عائقًا خطيرًا أمام الحفاظ على الجبهة الموحّدة ضد إيران، لكن ذلك النزاع السيّئ الحظ انتهى بسرعة مع تولّي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه، إذ تصالحت الأطراف الرئيسة كلها، وعاد النظام التقليدي إلى سابق عهده رغم فشل إدارة بايدن في سعيها المهووس لتوقيع اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية.

غير أنّ الحرب في غزة أعادت إلى الأنظمة العربية اهتمامها بالقضية الفلسطينية. فخشيتها الدائمة من تجدّد موجات الانتفاضات الشعبية، وحساسيتها العالية تجاه أيّ شرارة قد تشعل احتجاجاتٍ جديدة، جعلتها تدرك عمق الغضب الشعبي من التطهير العرقي والدمار الهائل في غزة. إن إعادة السعودية طرح مبادرة السلام العربية، التي تربط السلام مع إسرائيل بإنشاء دولة فلسطينية، تُظهر مدى التحول الحاصل. وقد انعكس هذا التحول في شروط اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي استبعد طرد الفلسطينيين وضمّ الأراضي، وهي شروط تتماشى مع تفضيلات دول الخليج أكثر مما تتماشى مع مصالح إسرائيل.​

اللحظة الضائعة لإسرائيل​

ومع ذلك، لم يدرك القادة الإسرائيليون بعد مغزى هذا التحول. فهم منشغلون بدلًا من ذلك بالحديث عن كيف غيّرت حملة إسرائيل ضد إيران وحلفائها ميزان القوى في المنطقة. فقد أدى اغتيال قيادة حزب الله وتدمير جزء كبير من ترسانته الصاروخية إلى إزالة أحد أهم الأصول العسكرية الإيرانية. أما سقوط نظام الأسد فقد حرم طهران من طريقٍ ميسّر لإعادة بناء حليفها اللبناني، بينما قامت إسرائيل بتدميرٍ منهجي للترسانة العسكرية السورية، واستهدفت الأصول الإيرانية في البلاد، وفرضت فعليًا سيادةً على مساحة واسعة من جنوب سوريا.

يعتقد مفكرو الأمن القومي والمسؤولون الإسرائيليون أن كل تصعيد جديد أثبت أن مخاوف المنتقدين كانت مبالغًا فيها. وهم يؤكدون اليوم أن خطأهم قبل السابع من أكتوبر كان في السماح للتهديدات بالتفاقم من دون التعامل معها بحسمٍ تام مهما كلّف الثمن. رهانهم هو أن النظام يمكن فرضه بالقوة، ومن الجو تحديدًا، وأن القادة العرب إما مرعوبون أو ضعفاء لدرجةٍ تمنعهم من الرد. ويبدو أن إسرائيل مقتنعة بأن الاعتبارات المعيارية لا تهم كثيرًا؛ فشرعية أفعالها، كما توحي، تأتي ببساطة من فوهة البندقية. قد يتذمّر القادة العرب، لكنهم في النهاية سيلتزمون بخط الهيمنة الإسرائيلية الصاعدة. لطالما كانت إسرائيل أكثر القوى الإقليمية واقعيةً، فهي تفضّل شرقًا أوسط تُحدّد فيه القوة الحقّ، ولا تضحي أي دولةٍ فيه بمصالحها من أجل الفلسطينيين، حيث لا قانون دولي ملزم، والقوة العسكرية هي السيّد الأعلى.

لكن التفوّق العسكري الإسرائيلي وقبول العرب المغمغم لن يصنعا نظامًا مستدامًا. إن ترسيخ القيادة الإسرائيلية إقليميًا يتطلب من الدول العربية أن تشارك إسرائيل إما شعورًا بالهدف أو بالإحساس بالخطر، وقد قوّضت إسرائيل كليهما. فدمار غزة وخطوات ضمّ الضفة الغربية أزالا أيّ ادعاء بأن إسرائيل تتيح طريقًا نحو حلٍّ عادل لمسألة الدولة الفلسطينية. وحتى قبل أن تدمّر الهجمات الإسرائيلية القدرات العسكرية الإقليمية لإيران، كانت السعودية ودول الخليج تتجه نحو مصالحةٍ مع الجمهورية الإسلامية. وبعد الضربة على الدوحة (وقبلها التهديدات الإسرائيلية بطرد ملايين الفلسطينيين إلى مصر والأردن)، باتت إسرائيل تُرى كتهديدٍ للأنظمة العربية لا يقلّ خطرًا عن إيران الضعيفة. ولن تميل الدول العربية إلى قبول تحالفٍ غير مرغوبٍ فيه مع إسرائيل إذا لم يعد الخطر الإيراني يبقيها مستيقظة في الليل.

إن القوة المنفلتة والطموح غير المحدود يقودان إلى المأساة. فقد أظهرت إسرائيل رفضًا ملحوظًا لأي خطوة جادّة لبناء شعورٍ مشتركٍ بالغاية يمكن أن يترجم نجاحها العسكري إلى قيادةٍ إقليمية. لا يزال الإسرائيليون أسرى صدمة هجوم السابع من أكتوبر. وترفض أغلبية كبيرة من الرأي العام الإسرائيلي إدانة المجتمع الدولي لجرائم الحرب في غزة، إذ يرفض معظمهم ببساطة تصديق التقارير حول المجاعة أو أعداد الضحايا المدنيين. أما نتنياهو فهو أكثر انشغالًا بالحفاظ على تماسك حكومته اليمينية المتطرفة الضيقة من مواجهة الانتقادات الدولية أو إحياء فكرة الدولة الفلسطينية التي تعتبر محرّمة بالنسبة لشركائه في الائتلاف. لقد أتاح وقف إطلاق النار في غزة فرصةً لتغيير المسار، لكن استمرار الاشتباكات، وإعاقة المساعدات الإنسانية، وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية لا تبشّر بالخير.

ولا يساعد إسرائيل أيضًا وهمها المفرط بقوتها العسكرية. فعلى الرغم من جرأتها في شنّ ضرباتٍ مباغتة وتفوّقها الجوي الواضح، فإنها لا تمتلك جيشًا قادرًا على احتلال أراضٍ والسيطرة عليها خارج الأراضي الفلسطينية والسورية التي استولت عليها قبل خمسةٍ وخمسين عامًا. لقد أثبتت قدرتها على تحقيق العديد من أهدافها التكتيكية عبر الاغتيالات والقصف من بعيد، لكنها لم تُثبت قدرتها على تحقيق أهدافها الاستراتيجية: فحماس لا تزال القوة المهيمنة في غزة، وحزب الله يرفض نزع سلاحه رغم خسائره الكبيرة، والحملة الضخمة التي استمرت 12 يومًا ضد إيران فشلت في إنهاء برنامجها النووي أو تحفيز الإيرانيين على الإطاحة بجمهوريتهم الإسلامية.

إن تفوّق إسرائيل العسكري حقيقي، لكنه مشروط. فقد تمكنت من مواصلة حربها على غزة فقط بفضل تزويد الولايات المتحدة لها بالذخائر. كما أن منظومات “القبة الحديدية” المضادة للصواريخ الإيرانية كانت على وشك النفاد من الصواريخ الاعتراضية قبل أن تفرض واشنطن وقف إطلاق النار في الحرب التي استمرت 12 يومًا. أما المناشدات العاجلة التي قدّمتها إسرائيل إلى واشنطن على مدار العامين الماضيين فتُظهر مدى اعتمادها العميق على الولايات المتحدة. ومن المؤكد أن القوى الإقليمية لاحظت هذا الضعف المحتمل في حال اندلاع صراعٍ طويل الأمد.

لقد لعب نتنياهو لعبة السياسة الأميركية لعقودٍ طويلة، ولديه ما يدفعه للاعتقاد بأن نفوذ إسرائيل في توجيه السياسة الأميركية سيستمر إلى أجلٍ غير مسمّى رغم الاضطرابات الحالية. لكن مؤشرات الخطر بدأت تومض. فاحتضان نتنياهو الحزبي للجمهوريين وسلوك إسرائيل في غزة أضعفا بشدّة الإجماعَ الحزبي التقليدي المؤيد لها. إذ أصبح معظم الديمقراطيين الآن يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين، وصار السياسيون الديمقراطيون يطرحون تساؤلاتٍ متزايدة حول المساعدات العسكرية لإسرائيل. أما الجمهوريون فلا يزالون داعمين، لكن التيار القومي في معسكر “أميركا أولًا” يبدو أقل استعدادًا لوضع مصالح إسرائيل فوق مصالح الولايات المتحدة. ترامب نفسه متقدّم في السن، متقلّب المزاج، وله روابط شخصية ومالية عميقة مع أنظمة الخليج، بينما لا يُظهر خلفاؤه الجمهوريون المحتملون، مثل نائبه جي. دي. فانس، التزامًا خاصًا تجاه إسرائيل. ومن دون “شيكٍ على بياض” من واشنطن، قد تتلاشى هيمنة إسرائيل أسرع مما يتوقعه أيّ أحد.

قد ترى إسرائيل نفسها القوة المهيمنة الجديدة في المنطقة، لكنها في الواقع جعلت نفسها أقلّ ضرورةً وفائدةً في آنٍ واحد. فبعد الهجوم على قطر، من غير المرجّح أن يواصل قادة الخليج توجيه أنظمة دفاعهم الجوي نحو إيران واليمن. وربما كانوا قادرين على تقبّل تدمير غزة، لكن إسرائيل جعلت نفسها الآن تهديدًا لأمنهم هم. وإنّ تجنّبها حتى الآن أي ثمنٍ جدي لتوسّعها العسكري في المنطقة ولدمار غزة عزّز قناعتها بأنها لن تدفع ثمنًا أبدًا. لكن هذا الوهم لا يقلّ خطأً عن اعتقادها عام 1973 بأن أيّ دولة عربية لن تجرؤ على مهاجمتها مجددًا بعد نصرها الساحق قبل ست سنوات، أو عن تصورها، قبل السابع من أكتوبر 2023، بأن حماس ستبقى إلى الأبد محاصرة داخل غزة.​
 
عودة
أعلى